فضائل بيت المقدس:
فضائل بيت المقدس لا تخفى على أحد، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة تُبين مكانتها وعِظم شأنها، ومن ذلك حديث أخرجه الإمام الواسطي عن مكحول رضي الله تعالى عنه أن ميمونة أم المؤمنين سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام عن بيت المقدس فقال: (ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه) قالت: فمن لم يُطق ذلك؟ قال: (فلْيُهْدِ إليه زيتاً) أي: أن يُقدم صدقة يسيرة، زيتاً يُضاء به فانوس أو يُطعَم به فقير، أو صدقة تكون سنداً وعوناً لهذا المسجد العظيم المبارك، فذلك فضل كبير، وهذا الكلام فيه إشارة؛ فقليل من الزيت يَعني أن يكون المسلم وفياً لقبلته الأولى، وأن يحرص على الدفاع عن هذا المسجد، خاصة عندما وقع الأقصى تحت يد الصهاينة المخرّبين.
وتاريُخنا الإسلامي يَشهد منذ أن فَتح عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مدينة القدس وأقام فيها العدالة والتسامح فيما بين الشرائع السماوية كلها، وترك وثيقة هامة راعى فيها كل الحقوق لأصحاب الشرائع السماوية المقيمين في القدس المشرّفة، فلم يعتدِ عليهم ولم يهدم كنائسهم ولم يكسر صلبانهم، بل تركهم على حالهم وكتب الوثيقة المعظمة التي تكفل حياة آمنة مطمئنة لكل الشعوب التي تعيش في مدينة القدس المقدسة.
وبعد أن دخلها الصليبيون مرة ثانية وعاثوا فيها فساداً وأراقوا فيها الدماء، عاد صلاح الدين الأيوبي رضي الله تعالى عنه ليفتحها من جديد، وليعيد إليها عدالة سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه وتسامحه، ومحبةً عظيمةً من المسلمين لأهل القدس مسلمِهم وغير ِمسلمهم، وعاش الناس في ظل الحكم الإسلامي في القدس زمناً طويلاً إلى أن جاء اليهود الصهاينة -عليهم من الله ما يستحقون- فعاثوا فيها فساداً، وأراقوا فيها الدماء وقتلوا فيها الأرواح البريئة، وهجّروا أهلها وبنوا فيها المستوطنات والمستعمرات.
يكفي مدينةَ القدس شرفاً قولُ النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) [أخرجه ابن حبان] فهذا الربط بين المساجد الثلاثة ربطٌ مقدّس عظيم يؤكد لكل المسلمين أن حقيقة القدس لا تقل شأناً عن حقيقة البيت الحرام أو المسجد النبوي الشريف، ويقول سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه: (قلت: يا رسول الله، أي مسجد وُضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة) [أخرجه مسلم] أربعون سنة مرحلة زمنية قليلة تفصل بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهذا يؤكد مكانته وقيمته في قلب كل مسلم ومؤمن بالله تعالى.
ومن الأحاديث في بيان فضل المسجد الأقصى: (من أَهَلَّ بحجة وعمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة) [أخرجه البيهقي وأبو داود] وفي رواية: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أو وجبت له الجنة) [أخرجه البيهقي] شك الراوي أيتهما قال. وورد في فضل الصلاة في بيت المقدس أن الصلاة فيه تترواح بين ألف صلاة وما يزيد عن ذلك.
وهكذا تتبدّى لنا الأحاديث كلها في فضل الصلاة في المسجد الأقصى، وتؤكد أنه من علامة الإيمان، وكذلك فضائل أخرى كثيرة وردت في الأحاديث الشريفة، منها في فضل الصدقة في بيت المقدس، ومنها في فضل الصيام فيه، وفضل الأذان وفضل الدفن، ومنها في أنها المكان الذي فيه الطائفة التي على الحق، تلك الطائفة المنصورة كما وصفها النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها في مضاعفة الحسنات والسيئات، ومنها في فضل صخرة بيت المقدس.
فلسطين والقدس والمسجد الأقصى مسؤولية كل مسلم في العالم:
مشاعر المسلمين الآن يجب أن تكون في حالة اضطرام واشتعال، لماذا يصمت العالم العربي والإسلامي على هذه التجاوزات الخطيرة التي تقوم بها إسرائيل؟ لماذا لا يكون هناك حِراك سياسي وشعبي ضخم لوقف هذه المحاولة الخبيثة لتهويد مدينة القدس؟ لا يجوز في حال من الأحوال أن تغيب هذه المشاعر؛ مشاعر ارتباط المسلمين بمدينة القدس، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، فالقدس ليست مسؤولية الفلسطينيين وحدهم أو المقادسة وحدهم، إنما هي مسؤولية الأمة الإسلامية جميعاً، وهناك أدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على أن القدس مدينة الإسلام والمسلمين، فلا يجوز التفريط بها، ولا التنازل عن شبر واحد من أرضها، لا بيعاً ولا من خلال المفاوضات أو التنازلات؛ فلا أحد يملك أن يتنازل عن أرض وقف، ولا أحد يملك أن يتنازل عن أرض إسلامية هي ملك الإسلام والمسلمين.
فالقدس مكانتها عظيمة في قلوبنا نحن معاشرَ المسلمين، ولعل من أوضح ما يؤكد هذه الحقيقة أنها مدينة الإسراء والمعراج، فقد ربط الإسراء مدينة القدس بمكة المكرّمة، وربط البيت الحرام بالمسجد الأقصى، فلا يصحّ الفِكاك بينهما أبداً، وخلّد الله تعالى هذا الترابط في الآية الكريمة: ]سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير[ [الإسراء: 1] فهذا الترابط بين المسجدين هو ترابط في العقيدة والانتماء والهويّة، وترابط في المسؤولية أيضاً، وإذا كنا مسؤولين عن حماية المسجد الحرام فهذا يعني أنّ مسؤوليتنا عن حماية المسجد الأقصى هي جزء من هذه الحماية؛ لأن المسجد الأقصى هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والربط بين هذين المسجدين العظيمين في مكة والقدس يؤكد هذه المسؤولية، فعلى أي مسلم يحجّ بيتَ الله الحرام أن يدرك حرمة المسجد الأقصى وقداسته، وأنه لا يجوز أبداً أن يُتنازل عن هذه المكانة أو أن يُفَرَّطَ فيها، أو أن يدّعي أحد أنه يمكن أن يتنازل عن القدس، فتُجَزَّأ إلى قدس شرقية وقدس غربية يكون جزء منها مع اليهود الصهاينة والجزء الآخر مع المسلمين العرب والفلسطينيين، هذا لا يَصحّ بحال من الأحوال، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليلة أُسري به أوقف البراق في الموقف الذي كان يقف فيه الأنبياء من قبل، ثم قال: دخل جبريل أمام النبي عليه الصلاة والسلام فأذّن جبريل، ونزل ملائكةٌ من السماء، وحشر الله المرسلين، ثم أقام جبريل الصلاة، وصلى النبي عليه الصلاة والسلام بالملائكة والرسل أجمعين، فأيّ حق لليهود في أرضٍ صلى فيها الأنبياء جميعاً؟! وأي مزاعم يفترونها علينا بين الحين والآخر؟!.
المشكلة ليست في ثوابتنا الشرعية الإسلامية، إنما المشكلة في ضعف إيماننا وانتمائنا، وضعف شعورنا بهذا الانتماء إلى المسجد الأقصى، ومن الواجب الشرعي على وسائل الإعلام أن تخصّص مساحات يومية من اهتماماتها لشرح قضية القدس، وكما أنها تخصص أوقاتاً لمسلسلاتها وأنشطتها الثقافية وبرامجها المتعددة فعليها أن تخصص أوقاتاً خاصة لتبين فيها حقيقة بيت المقدس، وأن بيت المقدس ومدينة القدس وأرض فلسطين أرض إسلامية مباركة لا يصح التنازل عنها ولا التفريط بها بأي أسلوب كان، فالقدس هي قبلة المسلمين الأولى، حيث ظلّت القدس على مدى سبعة عشر شهراً بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة القبلةَ التي توجه إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل أن تتحول بأمر من الله سبحانه في السنة الثانية من الهجرة نحو البيت الحرام، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة كان لا يحب أن يوافق اليهود في أي شيء من أفعالهم، فظل يقلّب وجهه في السماء ويسأل الله تعالى أن تتحول قبلة المسلمين نحو بيت الله الحرام في مكة المكرمة، فاستجاب الله عز وجل له، وعبَّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: ]قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون[ [البقرة: 144] فالقدس هي قبلة المسلمين الأولى منذ أن فرض الله تعالى الصلاة على المسلمين إلى السنة الثانية للهجرة، والمسلمون صلّوا زمناً طويلاً لا يقل عن ثلاثة عشر عاماً نحو المسجد الأقصى، إذاً هي قبلتهم الأولى المعظمة ولها مكانتها وقيمتها وشأنها، كما الكعبة المشرفة.