الجمعة 17 شوال 1445 - 26 أبريل 2024 , آخر تحديث : 2024-04-14 09:52:35 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

خطب مدير الأوقاف

تاريخ النشر 2016-12-28 الساعة 12:30:26
المسارعة في الخيرات
الشيخ أحمد سامر القباني

بتاريخ: 18 من صفر 1437 هـ - 18 من تشرين الأول 2016 م

الحمد لله، الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين القويم، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، حمداً لك ربي على نعمائك، وشكراً لك على آلائك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله ولا شيء بعده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،  صفيه من بين خلقه وحبيبه، خير نبي اجتباه، وهدى ورحمة للعالمين أرسله، أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره الكافرون ولو كره المشركون والملحدون.

وبعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم وإياي على طاعته، وأحذركم ونفسي من عصيانه ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وأن خير الهدي هدي رسول الله r، وأن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد( [الحج: 1-2].

إِلَهِي لا تُعَذِّبنِي فَإِنِّي
وَمَا لي حِيلَةٌ إِلا رَجَائِي
وَكَمْ مِن زَلَّةِ لِذِي الخَطَايَا
إِذَا فَكَّرتُ في نَدَمِي عَلَيهَا
أَهِيمُ بِزَهرَةِ الدُّنيَا فُتُوناً
وَلَو أَنِّي صَدَقْتُ الزُّهدَ فِيهَا
يَظُنُّ النَّاسُ بِي خَيرَاً وَإِنِّي

 

مُقِرٌّ بِالذِي قَدْ كَانَ مِنِّي
لِعَفوِكَ إِنْ عَفَوتَ وَحُسنُ ظَنِّي
وَأَنْتَ عَلَيَّ ذُو فَضلٍ وَمَنِّ
عَضَضْتُ أَنَامِلِي وَقَعَرْتُ سِنِّي
وَأَقْطَعُ طُولَ عُمرِي بِالتَّمَنِّي
قَلَبْتُ بِأَهلِهَا ظَهرَ الْمِجَنِّ
لَشَرُّ الخَلقِ إِنْ لم تَعْفُ عَنِّي

اللهم اعف عنا يا عفو، واغفر لنا يا غفار، وقنا عذاب النار.

اللهم إني أعوذ بك من التكلف لما لا أعلم، كما أعوذ بك من العجب بما أعلم، وأعوذ بك اللهم من السلاطة والهذر، كما أعوذ بك من العِيِّ والحَصَر.

أعذني ربي من حَصَر وعيٍّ

 

ومن نفس أعالجها علاجاً

وبعد أيها الإخوة المؤمنون: فما زلنا نتكلم في سلسلة هامة من الموضوعات، وعلى رأس هذه الموضوعات وهو الأُسُّ الذي انطلقنا منه هو حال وواقع هذه الأمة، هذه الأمة العربية والإسلامية التي حل فيها داء الفرقة والتنازع، والتي نزل بجنباتها التدمير والعنف والقتل من كل جانب، فالمتتبع للفضائيات الإخبارية اليوم لا يَكاد يرى مآسي في هذا العالم وعنفاً وقتلاً وتدميراً إلا في البلدان العربية والإسلامية، ولعله لا يُمكن لإنسان ذِي عقل راجح أن يَظن أن هذا الأمر إنما حصل عفو الخاطر وإنما انطلق انطلاقة ساذجة، وإنما ذو العقل الراجح يضع دائماً الأسباب والنتائج، وقد رويت لحضراتكم غير مرة تِلك المؤامرات التي تُحاك للأمة العربية والإسلامية، والتي خُططت وبيتت بليل، وهذه الأمة نائمة، والحل؟ الحل أن ينطلق كل واحد مِنَّا من نفسه، لا أن ينتظر الآخرين، فليس معنى إذا كانت الأمة نائمة ولم تنطلق المجتمعات مِن كبوتها أن نبقى نحن نائمين، بل يجب أن ننطلق ويجب أن نتغير، ومفتاح التغيير بيد كل واحد منا، وقد تكلمت في أسابيع منصرمة عن أهم شيء وأهم عنصر في التغيير، وهو أن يكون الإنسان المؤمن صاحب قضية وهدف في هذه الحياة، فأن يعيش ليأكل ويشرب وينكح ويلعب فهذا ليس من صفات الإنسان المؤمن، )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون ([الذاريات: 56], )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُون( [المؤمنون: 115]، فالمؤمن صاحب قضية وهدف في حياته.

وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجساد

إذا كنت صاحب هدف كبير فيجب أن يتعب جسدك لِتُحصل ذلك الهدف، ومعنى ذلك أن تكون عالي الهمة وصاحب همة علية، لا أن يكون الواحد منا كسولاً، وأن يعيش حياته دون تنظيم وتخطيط، وبذلك نصل إلى إدارة الوقت العنصر الأهم في حياة الإنسان، فالإنسان إذا ذهبت تُترجم ذاته وجدته في الحقيقة أياماً، فإذا ذهب يوم منه فقد ذهب بعضه، وإذا ذهب البعض أوشك أن يذهب الكل، كما قال الإمام التابعي الجليل الحسن بن يسار البصري رضي الله تعالى عنه.

أيها الإخوة: إنَّ إدارة الوقت يَجب أن تَكون على قَدرٍ كبير من المسؤولية, المسؤولية التي تَنطلق من واذع إيماني، والمسؤولية التي تنطلق تجاه المجتمع، فأولاً تُنظم في وقتك ما يَكون مُهِمَّاً جداً لك في حسن صلتك بالله سبحانه وتعالى، فالإنسان المؤمن بِغَير صلة بالله لا أعتقد أن لحياته معنى، ولذلك إذا ذَهبت تستقري وتتبع المجتمعات الغربية وجدت فيها ظاهرة عجيبة، وهي ظاهرة الانتحار، وكلما كانت هذه الدول أرقى -من حيث المدنية لا من حيث الحضارة فالحضارة كل الحضارة أن تكون على وفق شرع الله، لكن على وفق المدنية بناء مدن وناطحات سحاب وشوارع مُنظمة وإلى غير ذلك- كلما ارتقت المدينة وكلما كان دخل الفرد فيها أكبر كلما كثرت فيها ظاهرة الانتحار، حتى سُجلت أكبر ظاهرة للانتحار في الدول السكندناسية، فإذاً يُعانون من فراغ إيماني لا يربطهم بخالق هذا الكون سبحانه وتعالى، وكذلك رأينا كثيراً مِن شباننا وكثيراً من فتياتنا يُعانون هذا الفراغ في عصر الاتصالات الحديثة، لأنهم انشغلوا بكل مُعطىً من هذه المعطيات المادية، وأصبح عندهم فراغ روحي حتى في رجالنا ونسائنا، والسبب في ذلك ليس هناك صلة بالله، فاجعل في إدارة وقتك شَيئاً هاماً يَصلك بالله سبحانه وتعالى، والشيء الآخر اجعل في إدارة وقتك شيئاً تخدم به المؤمنين والأمة، وهذا أمر وشأن يُعينك في دنياك ويكون ذخراً لك في أخراك، فهذا مَطلب أخروي، عندما يبدأ الإنسان العاقل بوضع برنامج له بإدارة وقته، يجب أن يكون ضمن إدارة الوقت أشياء للآخرة، فتكون هذه الأشياء مِفتاحاً له بالتوفيق فيما خَطط له، أما إذا لم يجعل لآخرته شيئاً، وأقصد الآخرة ليست العبادة، وإنما الصلة بالله سبحانه وتعالى وخدمة الناس وخدمة المجتمع وخدمة المؤمنين، عندما تنطلق هذه الانطلاقة فانطلاقتك تكون صحيحة، وما عدا ذلك فمعنى ذلك أنك انطلقت انطلاقة دنيوية بحتة، وسوف تُعاني خلالها مِن تعثرات أو من عثرات، لماذا؟ إذا أردنا أن ننظر في معين كلام الله عز وجل، وفي معين حديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجدنا أن القرآن الكريم يُحدثنا عن شيئين لا تكاد تخلو سورة في كتاب الله من الحديث عنهما، هما: الدنيا والآخرة، وهناك آية تدلنا على أنه ينبغي أن يَكون هناك توازن بين هذين الشيئين، بين الدنيا وبين الآخرة، يَظهر هذا التوازن جلياً في قول الله سبحانه وتعالى: )رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار( [البقرة: 201]، ولكن أريد أن أقف مع حضراتكم عند هذا التوازن، هل هذا التوازن يعني أن نعطي نصف أوقاتنا للدنيا ونصفها للآخرة؟ أن تكون أهدافنا نصفها دنيوياً ونصفها أخروياً؟ كما قلت لحضراتكم عن ذلك الدَّاعية الذي قال ذلك الكلام الجميل، قال: (نحن نريد أشخاصاً يعيشون في سبيل الله وليس فقط أشخاصاً يموتون في سبيل الله)، إذاً يجب أن نبحث عن هذا التوازن في كتاب الله وفي سنة رسول الله، إذا بحثنا عنه بشكل صحيح سوف نجد التالي، سوف نجد آية في كتاب الله عز وجل هي مَناط المعرفة بهذا التوازن، وهي قوله تعالى: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين ([القصص: 77]، نَعود إلى أركان وأقسام هذه الآية: )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَة(، عُلماؤنا مِن الفقهاء والأصوليين يقولون: هناك في القرآن ألفاظ لها دلالات على المعاني، وتكون دلالاتها على هذا المعنى قطعية أو ظنية، ويَضربون أمثلة بالعام والخاص، فالخاص هو العدد، )وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا( [البقرة: 234]، فعِدة المرأة المتوفى عنها زوجها لا خِلاف فيها، لأن هذا اللفظ يدل على معناه بشكل قطعي، وهو العدد، وهناك ألفاظ تَدل على معاني عامة، ومن هذه الألفاظ (ما)، )وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ(، فما اسم موصول بمعنى الذي، أي ابتغ في الذي آتاك الله، ما معنى آتاك الله؟ أي أعطاك الله إياه من النعم، نعمة الصحة، ونعمة العافية، ونعمة الزوجة، ونعمة الأولاد، ونعمة الغنى إذا كنت غنياً، ونعمة العقل إذا كنت عاقلاً، وفي كل نعمة أعطاك الله إياها، كل نِعمة، لماذا أقول كل؟ أخذناها مِن (ما)، )فِيمَا آتَاكَ(، كل ما أعطاك الله إياه يجب أن تبتغي يَعني أن تطلب به الدار الآخرة، إذاً حياة الإنسان المؤمن وإن كان يذهب إلى العمل فإنه قبل أن يَخرج إلى العمل يقول: اللهم إني خرجت في سبيلك سعياً على العيال كي لا أسأل الناس ولا أمد يدي بسؤالهم، إذا خَرجت بهذه النية فطيلة وجودك في العمل أنت في عبادة وطاعة، الإنسان الطبيب عندما يُمرض الناس وينظر في شؤونهم إذا نوى بذلك خدمة المؤمنين وخدمة الناس يَأخذ أجراً وثواباً كبيرين، وطالما هو في ذلك فهو في طاعة، والإنسان صاحب المال عِندما يكسب المال ويَنوي أن يُقوي هذه الأمة العربية والإسلامية مِن أجل أن تكون أمة قوية، فالصحابة كان فِيهم الزاهد في الدنيا، فكان لا يجد إلا ثوباً مُرقعاً يلبسه، وكان فيهم "مليونير" وهو سيدنا عثمان، وكان فيهم "ملياردير" وهو سيدنا عبد الرحمن بن عوف، وهكذا الأمة يجب أن تكون قوية، وأنت يجب أن تكون قوياً، لكن في كل مفصل من مفاصل حياتك يقول لك" الله عز وجل ابتغ به الدار الآخرة، كيف؟ النية الصادقة، النية المخلصة لله سبحانه وتعالى، أن لا ترتكب المخالفات الشرعية، وأن تكون صاحب هدف وقضية، حينئذ أنت تبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، كل شيء، انظر إلى تتمة الآية، قال ربنا: )وابتغ فيما( كل شيء أعطاك الله إياه اطلب به الدار الآخرة، لما جاء ذكر الآخرة، لكن لما جاء ذكر الدنيا قال ربنا: )وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا(، هناك (كل) وهنا: )نصيبك من الدنيا(، هذا ما يُفسر لنا التوازن بين الدنيا والآخرة، عندما تُدير وقتك اجعل وقتك كله لله، وإذا كان في عمل دنيوي فخصص من أوقاتك ما يَكون عملاً لله.

حفظنا من مشايخنا لفتة جميلة جداً أخذوها من معين كلام الله ومعين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أن أنقل لحضراتكم هذه اللفتة، قالوا: عندما تَكلم الله عز وجل عن أمور الخير والبر وأمور الآخرة استخدم ألفاظاً مُعينة، وعندما تكلم عن الدنيا استخدم ألفاظاً معينة، عندما تكلم عن الآخرة وعن السعي للآخرة وعن الخير والبر جاءت بألفاظ: المبادرة المسارعة المسابقة المنافسة، ولكن عندما جاء الحديث عن الدنيا ليس هناك حديث عن المسارعة ولا عن السباق، قال ربنا عز وجل:) فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ( [الملك: 15]، (فامشوا) لكن هناك: بادروا، سابقوا، سارعوا، نافسوا، نقرأ ذلك جلياً في قول الله سبحانه وتعالى: )وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ( [آل عمران: 33]، (وسارعوا)، وقال سبحانه وتعالى: )سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِه( [الحديد: 21]، (سابقوا)، وعندما امتدح الله عز وجل الأنبياء امتدحهم بمسارعتهم في الخيرات، مسارعة وليس مشياً طبيعياً للخير، فقال سبحانه وتعالى: )وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ([القصص: 89-90]، لماذا حصل كل ذلك؟ قال ربنا: )إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ( [القصص: 90]، الله، مُسارعة في الخيرات، الخير ما يَحتاج إلى استخارة، الاستخارة فيما كنت تظن أو تشك في خيره وشره، الخير لا يحتاج إلى استخارة، فوراً بادر، )إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين(،َ وقال سبحانه وتعالى: )إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَـئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ([المؤمنون: 57-61]، هل نلاحظ -أيها الإخوة- هذه الألفاظ: في الخير، في البر، في الآخرة، يسارعون، سابقون.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ((بادروا بالأعمال سبعاً، -بادروا مبادرة مسارعة مسابقة منافسة- بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مشداً، -شديد- أو هرماً مفنداً، -الفند هو الخرف، يخرف الإنسان مع الهرم- أو موتاً مجهزاً، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر))، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وكأن الحديث لهذا الزمان، لأن الكسل استحكم في النفوس، ولأن الهمم ضاعت، وأصبح الواحد منا مشغولاً بأمور دنيوية كثيرة، وليس للآخرة أو للخير والبر نصيب في وقته اليومي، ليس في الأسبوع نعمل عمل خير، ولا في الشهر نعمل عمل خير، برنامج يومي، يقول عليه الصلاة والسلام: ((بادروا بالأعمال –سارعوا، أنجزوا بسرعة- بادروا بالأعمال، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يَبيع دينه بعرض من الدنيا))، يبيع دينه، وبيع الدين بيعٌ للآخرة، بعرض من الدنيا بغرض زائف، جاه أو مال، يبيع دنياه بعرض من الدنيا، والحقيقة تظهر أيضاً وأنتم تحفظون قوله تعالى: )وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون ([المطففين: 26]، لاحظ هذه التعبيرات القرآنية والنبوية، الحقيقة أيضاً تتجلى إذاً:

الآية الأولى: تُعطينا نوعية التوازن كل شيء في حياتك هو لله وللآخرة: )وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا(، الآية اليوم مَقلوبة، نقول للناس: رجاء لا تنسوا نصيبكم من الآخرة، هذا هو الواقع.

الآية الثانية: التي أختم بها هذه الخطبة قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: )زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ( [14]، (زين) مأخوذة من الزينة، لو ذهبنا نَرى ونتتبع ما هي الزينة مثلاً في هذا المسجد، نجد الزخارف مثلاً زينة، هذه الثريات ممكن زينة، الخطوط ممكن زينة، لكن لا يمكن لعاقل أن يقول أن أثاث البناء هو زينة، إذا قال ذلك فإنه مجنون، (زين للناس) ما الذي زُيِّن يا رب؟ قال: )حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ الأولاد وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة( في زمانهم المقياس الذهب والفضة والأنعام، من عنده عشرة آلاف رأس، لم يكن هناك لا شركات ولا بورصة ولا هذا الاقتصاد الحديث، من عنده غنم أكثر، من عنده جمال أكثر يكون صاحب ثروة أكبر، من عنده أراضي مزروعة أكثر يكون صاحب ثروة أكبر، )زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة( السيارات الفارهة، لأنه لم يكن هناك سيارات، )وَالْأَنْعَام( كثرة الأبقار والجمال والشياه والأنعام، )وَالْحَرْث( كثرة الأراضي، قال ربي سبحانه وتعالى في نهاية هذه الآية: )ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا( هل انتهت الآية؟ )وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ( المآب هو المرجع، لما ترجع إلى الله فإن عنده أحسن مِن كل الأشياء، ثم قال ربنا في الآية التي تليها مباشرة: )قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ( بخير من ذلكم، يا رب هل هناك شيء أحلى من النساء والأولاد والأموال والسيارات والأراضي والعقارات؟ )قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ بخير من ذلكم( نعم يا رب نبئنا، قال: )لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ( التقوى خير من كل ذلك، تقوى الله التي فسرها سيدنا علي رضي الله تعالى عنه عندما سئل عن التقوى فقال: هي الخوف من الجليل سبحانه وتعالى، والعمل بالتنزيل، العمل بما أنزل الله وبما قال رسول الله، والاستعداد ليوم الرحيل عن هذه الدنيا، والرضا بالقليل. )قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّـهِ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ( [آل عمران: 15]، هذه هي الحقيقة، فإذاً في إدارة الوقت يجب أن يكون هناك وقت لصلتك بالله، وسنتكلم عن هذا إن شاء الله في الخطب القادمة، ووقت من أجل أن تفيد الناس، وأن تنفعهم وأن تساعدهم، رحم الله شيخنا الشيخ صالحاً الفرفور، كان يقول لتلامذته، من تلامذته؟ سيدنا الشيخ عبد الرزاق الحلبي رحمه الله، سيدنا الشيخ أديب الكلاس رحمه الله، سيدنا الشيخ رمزي البزم رحمه الله، سيدنا الشيخ شعيب الأرناؤوط رحمه الله، الذي ودعنا قبل أيام، سيدنا الشيخ عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله، سيدنا الشيخ إبراهيم اليعقوبي رحمه الله، وهؤلاء الثلة من العلماء الكبار، كان يقول لهم: إذا طلعت عليكم الشمس وغربت ولم تخدموا إنساناً بمالكم أو بجاهكم، ولم تُعلموا طالب علم فانظروا ماذا فعلتم، تكونون قد فعلتم معصية أو إثماً، بهذه المعصية وبهذا الإثم بسبب الإثم حَرمك الله مِن مقام الخدمة، فإن الخدمة مَقام لا يُعطيه الله عز وجل لكل عباده، هناك أناس الله خصصهم لخدمة الناس.

أمثلة قصيرة وسريعة: شخص من الناس وهو تاجر كبير، سألته: لماذا ترافق هذا العالِم من العلماء؟ أنت رفيقك هذا الشيخ العالم؟ قال: لا والله، يشهد الله لا أرافقه إلا لأنتفع به، قال: خدمة المشايخ فيها أجر وثواب، وخدمة العلماء فيها أجر وثواب، فخصص وقته مساء مِن أجل مرافقة هذا العالم الجليل، وأن يكون معه في خدمته.

شيء جميل جداً في إدارة الوقت لو جعلت منه شيئاً لله.

مثال آخر: هناك أشخاص في الجامعة يدرسون، وأشخاص مُتخرجون وجدت بعضهم يدرس في معاهد تحفيظ القرآن الكريم مساء، هو حافظ لكتاب الله ومجاز، ولكنه طبيب أو مهندس أو في الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات، لماذا تُدرس الأولاد الصغار؟ قال لي: أنا خصصت هذا الوقت لله، يدير وقته بشكل جيد، جعل منه شيئاً للآخرة، مع أنه مُستغنٍ وليس بحاجة لذلك.

شخص ثالث مِن التجار، كلما يؤذن الأذان ولو كان عنده شُغل الدنيا كله، يَتركه ويذهب إلى صلاة الجماعة، قال لي: والله أنا مُنغمس بالدنيا، ويقول: يا رب ببركة صلاتي مع الجماعة الأوقات الخمسة لعلي أعمل شيئاً لله ولآخرتي، شيء جميل جداً في إدارة الوقت.

شخص رابع أعرفه يقرأ كل يوم جزءاً من القرآن، قال لي: إذا كانت الدنيا شتاءً أقرأ خمس صفحات عندما أنزل إلى السيارة ريثما تسير، وإذا الوقت صيفاً ريثما يشتغل المكيف أقرأ خمس صفحات من القرآن، ولما أصل إلى شغلي أقرأ خمس صفحات، وعندما أرجع في السيارة أيقرأ خمس صفحات، أقرأ عشرين صفحة جزءاً كاملاً، شيء جميل في إدارة الوقت.

هناك مَن يعمل في جمعية خيرية وهو غني، وفي لجنة بناء مسجد وهو غني، شيء رائع، جعل جزءاً مِن وقته لله سبحانه وتعالى، لعله ينزل تحت قوله تعالى: )إِنَّما يَعمُرُ مَساجِدَ اللَّـهِ مَن آمَنَ بِاللَّـهِ وَاليَومِ الآخِرِ( [التوبة: 17]، ولعله يقوم بمساعدة المهجرين والناس في هذه الجمعية الخيرية، وهو مِن الداعمين المتبرعين، ليس بحاجة للعمل، لكن خصص مِن وقته شيئاً لله.

أمثلة كثيرة -أيها الإخوة- ولكن ما يَهمني هو أننا هل بدأنا بهذا البرنامج، برنامج إدارة الوقت؟ وإذا بدأنا فهل جعلنا مِنه شيئاً لله في حياتنا؟ إنه سؤال مهم، هو مفتاح التغيير، وما لم تبدأ به فلم تبدأ بالتغيير.

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، استغفروه يغفر لنا ولكم، فيا فوز المستغفرين.

 

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1088
تحميل ملفات
فيديو مصور