لقد أخذت الحمية من نفس عمررضي الله عنه ، ولكنها لم تأخذ من نفس صاحب الحق ، الذي أوذي بغير حق ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا دعاه ذلك إلى البطش بالمعتدي كما هي عادة الزعماء والأمراء ، بل صبر واتأد وترفق بالمعتدي غاية الرفق ، ثم قال قولة التكرم والتسامي: يا عمر ، كُنتُ أنا وهو أحوج إلى غير هذا منك ، كُنتُ أحوج إلى أن تأمرني بحسن الأداء ، وكان أحوج إلى أن تأمره بحسن الطلب ، اذهب فاقضه حقه وزده عليه لقاء ما خوفته .سمع الحبر كلام رسول الله، ورأى البشر في وجهه ، وتجلى له الخلق العظيم ، الذي جعله الله من دلائل النبوة ، فغسل ذلك قلبه وأزاح عنه غشاوات الباطل ، فهفى قلبه إلى دين الحق والإيمان بالله ورسوله ، ومضى مع عمر ليأخذ حقه ، فلما رأى الزيادة قال: ما هذه الزيادة يا عمر؟ قال: لقد أمرني بها النبي ، كما سمعت لقاء ما روّعتك ، ولكن أخبرني ما الذي دعاك إلى ما فعلت ؟ قال: يا عمر ، إنه لم يكن شيء أعرفه من علامات النبوة إلا رأيته في وجه رسول الله حين نظرت إليه إلا شيئين لم أكن رأيتهما بعد ، يسبق حلمُه غضبَه ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، فقد رأيت الآن وعلمت ، فاشهد يا عمر أني قد رضيت بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ورسولاً ، وأشهدك أن شطر مالي صدقة على أمة محمد ، ورجع عمر وزيد إلى النبي ، فلما مثل زيد بين يدي رسول الله قال: أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، وهكذا انضم الحبر اليهودي زيد بن سعنة إلى مكتملي الإيمان بين الأصحاب الكرام ، الذين اختارهم الله على العالمين ، ليحملوا مع نبيه راية الإيمان ، فتحقق فيه قول الله تعالى لكليمه موسى : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُون} [سورة الأعراف (156)].
- رأى زعيم المنافقين في المدينة المنورة عبد الله بن أبي بن سلول في قدوم رسول الله زوال زعامة له تشمل كل يثرب ، زعامة انتظرها طويلاً وسعى إليها كثيراً ، حتى رآها في متناول يده ، حينئذ تكبر وأعرض جهاراً ، ثم أسر ذلك في نفسه ، وحين غلب جانب النبي لم يتوقف يوماً عن تدبير الفتن له ، ومحاولات الإيقاع بين المهاجرين والأنصار ، وآذى رسول الله قولاً وفعلاً كلما سمحت له فرصة ، حتى تنزلت آيات القرآن تشير إليه بالبنان ، وتبرز نفاقه للعيان ، فيتحدث الناس أن النبي يريد قتله ، بل لقد استأذنه عمر بن الخطاب في ضرب عنقه حين استعلن منه النفاق ، فأبى رسول الله ، وتنامت الأنباء إلى سمع ابنه المؤمن القوي الإيمان عبد الله بن عبد الله ، فأقبل إلى النبي يقول: يا رسول الله ، بلغني أنك تريد قتل أبي ، فإن كنت تريد ذلك فأنا أقتله ، إني أخشى إن قتله غيري أن تطلب نفسي بثأره ، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار ، فأجابه سيد أهل الحلم: لا يا عبد الله بل نصبر عليه ونترفق به ونحسن صحبته ، فاطمأنت نفس عبد الله وزاده حلم النبوة إيماناً . وتوالت الأيام وتوالت إساءات ابن سلول ، وتوالى عليه من النبي الحلم والرفق والإحسان ، ورأى قومه ذلك كله فأبغضه أكثرهم وباعدوه ، ومع ذلك بقيت حوله جماعة كبيرة من المنافقين ، ثم انفضوا عنه لما رأوا من إحسان رسول الله عليه يوم موته ، لقد استجاب لطلب ابنه عبد الله بن عبد الله ، فصلى عليه وكفنه بقميصه ، وأنزله حفرته بيده ، واستغفر له أكثر من سبعين مرة ، لأن ربه قال له: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فقال : سأزيد على سبعين ، ولامه بعض أصحابه فأعرض عنهم ، وعامل ابن سلول بالعفو والحلم والإحسان ، فغسل ذلك قلوبهم وأقبلوا إلى رسول الله يقولون: نشهد ألا إله إلا الله ونشهد أنك رسول الله .
- أراد فضالة بن عمير الليثي قتل النبي وهو بالبيت عام الفتح ، فلما دنا منه قال رسول الله : أفضالة ؟ قال: نعم فضالة يا رسول الله ، قال: ماذا كنت تحدث نفسك ؟ فقال: لا شيء ، كنت أذكر الله . فضحك النبي ثم قال: استغفر الله ، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه ، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه ، قال فضالة: فرجعت إلى أهلي ، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت: هلم إلى الحديث ، فقلت: لا ، وانبعث فضالة يقول:
- كان علي بن أبي طالب يقاتل عمرو بن عبد ود العامري في أحد المعارك ، فلما تمكن منه وارتقاه بصق في وجهه ، وهو يوشك أن يرديَه قتيلاً ، فلم يُعَجِل عليّ بالانقضاض عليه ، بل استدار قليلاً ، ولما قيل له في ذلك ، قال: أردت أن أقتله غضبَاً لله لا غضبَاً لنفسي ؛ ولذا لم يعاجله على الفور ، وإنّما تركه برهة ثمّ صرعه .
- اشترى رجل من أهل دمشق قطيفة فلم تعجبه ، فحلف ليضربنَّ بها رأس الأمير معاوية ، فأتاه وأخبره بما حلف ، فقال معاوية الحليم: "أوفِ بنذرك وليرفقِ الشيخُ بالشيخ" .
- خرج زين العابدين بن علي بن الحسين إلى المسجد ، فسبه رجلٌ في الطريق ، فقصده غلمان زين العابدين ليضربوه ويؤدبوه فنهاهم ، وقال لهم: كفوا أيديكم عنه ، ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول ، وما لا تعرفه عني أكثر مما عرفته ، فإن كان لك حاجة في ذكره - يعني ذكر معايبي - ذكرته لك ، فخجل الرجل واستحيا ، فخلع زين العابدين قميصه له ، وأمر له بألف درهم ، فانصرف الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا ولد رسول الله .
-دخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة ، فمر برجل نائم فعثر به ، فرفع رأسه وقال: أمجنون أنت ؟ فقال عمر: لا ، فهمَّ به الحرس ، فقال عمر: مه ، إنما سألني: أمجنون ؟ فقلت: لا .
-قال رجلٌ لوهب بن منبه رحمه الله تعالى: إن فلاناً شتمك . فقال: ما وجد الشيطان بريداً غيرك ؟
-شتم رجل الشعبي فقال: إن كنتُ كما قلتَ فغفر الله لي ، وإن لم أكن كما قلتَ فغفر الله لك .
-قال النَّبِيِّ : (مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ) [أخرجه البخاري].