فَالحَمدُ للهِ عَلَى بُلُوغِ خِتَامِ الشَّهرِ الفَضِيل ، وَنَسأَلُ اللهَ قَبُولَ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَالصَّدَقَات ، فَلِلَّهِ دَرُّ أَقوَامٍ تَرَكُوا الدُّنيَا فَأَصَابُوا ، وَسَمِعُوا مُنَادِيَ الحَقِّ يَدعُو فَأَجَابُوا ، وَقَصَدُوا بَابَ مَولاهُم فَمَا رُدُّوا وَمَا خَابُوا . فَبَادِرُوا بِالتَّوبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِن جَمِيعِ الخَطَايَا وَالذُّنُوبِ وَالآثَام ، وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ قَد خَلَقَنَا لِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِه ، فَقَالَ جَلَّ مِن قَائِل: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُون) فَلَقَد كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رضي الله عنهم يَرَونَ أَنَّ مَن مَاتَ عَقِبَ عَمَلٍ صَالِحٍ كَصِيَامٍ أَو حَجٍ أَو عُمرَةٍ يُرجَى لَه أَن يَدخُلَ الجَنَّة ، وَكَانُوا مَعَ اجتِهَادِهِم فِي صِحَّةِ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ يُجَدِّدُونَ التَّوبَةَ وَالاستِغفَارَ عِندَ الموت ، وَفِي كُلِّ وَقتٍ وَزَمَان . وَلْنَتَذَكَّر وَلْنَعتَبِر يَا عِبَادَ اللهِ بِمَّن كَانَ مَعَنَا فِي مِثلِ هَذِهِ الأَيَّام ، كَيفَ جَرَّعَهُمُ الْمَوتُ كَأسَ الْمَنِيَّة ، وَأَودَعَهُم بُطُونَ القُبُور ، لا يَقدِرُونَ عَلَى زِيَادَةِ حَسَنَة ، وَلَا يَنتَفِعُونَ فِي مُضِيِّ يَومٍ وَلا سَنَة ، تَجَرَّدُوا مِن هَذِهِ الحَيَاةِ وَالتحَفُوا التُّرَاب ، وَسَكَنُوا بَعدَ القُصُورِ العَالِيَةِ القُبُورَ الفَانِيَة ، فَلَو رَأَينَا أَحوَالَهُم لَرَأَينَا أُمُورَاً هَائِلَة ، أَعنَاقَاً مِنَ الأَبدَانِ زَائِلَة ، وَعُيُونَاً عَلَى الخُدُودِ سَائِلَة ، وَنَحنُ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيهِ صَائِرُون ، وَعَلَى مَا قَدَّمنَا مِنَ العَمَلِ قَادِمُون.
أَيُّهَا الإِخوَة: مَاذَا بَعدَ رَمَضَان ؟ مَاذَا عَن آثَارِ الصِّيَامِ فِي نُفُوسِ الصَّائِمِين ؟ فَلنَنظُر فِي حَالِنَا وَلْنَتَأَمَّل فِي وَاقِعِ أَنفُسِنَا ، وَلْنُقَارِن بَينَ حَالِنَا قَبلَ رَمَضَانَ وَحَالَتِنَا بَعدَ فِرَاقِه ، هَل مَلَأَت التَّقوَى قُلُوبَنَا ؟ هَل صَلُحَت أَعمَالُنَا ؟ هَل تَحَسَّنَت أَخلَاقُنَا ؟ هَل استَقَامَ سُلُوكُنَا ؟ هَل اجتَمَعَت كَلِمَتُنَا وَتَوَحَّدَت صُفُوفُنَا ضِدَّ أَعدَائِنَا ؟ وَزَالَت الضَّغَائِنُ وَالأَحقَادُ مِن نُفُوسِنَا ؟ هَل تَلاشَت الْمُنكَرَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ مِن بُيُوتِنَا وَأُسَرِنَا ؟ فَيَا مَن استَجَبتُم لِرَبِّكُم فِي رَمَضَان ، استَجِيبُوا لَهُ فِي سَائِرِ الأَيَّام ، فَرَبُّنَا يَقُولُ لَنَا: (ٱستَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ ٱلله) أَمَا آنَ أَن تَخشَعَ لِذِكرِ اللهِ قُلُوبُنَا ، وَتَتَوَحَّدَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُستَقِيمِ دُرُوبُنَا ؟ لَقَد جَاءَت النُّصُوصُ الشَّرعِيَّةُ بِالأَمرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَالاستِقَامَةِ عَلَى شَرعِهِ عَامَّةً فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَان ، وَمُطلَقَةً فِي كُلِّ وَقتٍ وَآن ، وَلَيسَت مُخَصَّصَةً بِشَهرٍ أَو وَقتِ مِنَ الدَّهر ، بَل لَيسَ لَهَا غَايَةٌ إِلا الْمَوت ، لِقَولِ الحَسَنِ البصرِيِّ رضي الله عنه: (لا يَكُونُ لِعَمَلِ الْمُؤمِنِ أَجَلٌ دُونَ الْمَوت) ثُمَّ قَرَأَ قَولَ اللهِ سُبحَانَه: (وَٱعبُد رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِين) وَلَمَّا سُئِلَ بِشرٌ الحَافِيِّ رضي الله عنه عَن أُنَاسٍ يَتَعَبَّدُونَ فِي رَمَضَانَ وَيَجتَهِدُون ، فَإِذَا انسَلَخَ رَمَضَانُ تَرَكُوا العِبَادَاتِ وَالطَّاعَات ، فَقَالَ رضي الله عنه (بِئسَ القَومُ لا يَعرِفُونَ اللهَ إِلا فِي رَمَضَان).
فَيَنبَغِي أَن لا يُوَدِّعَ الْمُسلِمُونَ صَالِحَ العَمَلِ بَعدَ رَمَضَان ، بَل يَجِبُ أَن تَبقَى آثَارُ الصِّيَامِ شِعَارَاً مُتَمَثِّلَاً فِي حَيَاةِ الفَردِ وَالأُمَّة ، وَمَا أَعطَاهُ الصِّيَامُ مِن دُرُوسٍ فِي الصَّبرِ وَالتَّضحِيَة ، وَالإِذعَانِ لِأَمرِ اللهِ وَالوَحدَةِ وَالتَّضَامُنِ وَالأُلفَةِ وَالْمَوَدَّةِ بَينَ أَفرَادِ الأُمَّة ، فَيَجِبُ أَن يَستَمِرَّ عَلَيهِ الْمُسلِمُون ، وَتُرَى مُتَجَسَّدَةً فِي حَيَاتِهِمُ العَمَلِيَّةِ بَعدَ رَمَضَان ، وَمَا تَدَنَّى وَاقِعُ الأُمَّة ، وَمَا أُصِيبَ الْمُسلِمُونَ بِالوَهنِ فِي أَنفُسِهِم وَبِالضَّعفِ أَمَامَ أَعدَائِهِم ، إِلا لَمَّا تَخَلَّوا عَن أَعَزِّ مُقَوِّمَاتِ نَصرِهِم وَسِيَادَتِهِم ، أَلا وَهُوَ الدِّينُ الإِسلامِيُّ الحَق ، وَلَمَّا أَسَاءَ بَعضُ الْمُسلِمِينَ فَهمَه ، فَجَعَلُوا لِلطَّاعَةِ وَقتَاً وَلِلمَعصِيَةِ أَوقَاتَاً ، وَلِلخَيرِ وَالإِقبَالِ زَمَنَاً وَلِلشَّرِّ وَالإِدبَارِ أَزمَانَاً ، عِندَ ذَلِكَ لَم تَعمَل مَوَاسِمُ البِرِّ وَالْمَغفِرَةِ عَمَلَهَا فِي قُلُوبِ النَّاس ، وَلَمْ تُؤَثِّر فِي سُلُوكِهِم وَأَخلَاقِهِم ، وَلَم تُجدِ فِي حَلِّ مُشكِلَاتِهِم وَقَضَايَاهُم ، إِلا مَن رَحِمَ الله.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام ، واغفر لنا وارحمنا وأعتقنا من النار ، واجعلنا من المقبولين يا أرحم الراحمين .