ها هو شهر رمضان يحلُّ ضيفاً علينا بعد عام مضى من حياتنا ، حدثت فيه الكثير من الأحداث ، و قدم فيه بعضنا من الأعمال ما قدم وأحسن فيه من أحسن ، وقصر أناس آخرون ، وتساهل آخرون ، ورحل عن الدنيا آخرون، حسابهم على ربهم ، والمسلم الحق هو من يتعظ بغيره ويعود إلى رشده ويستفيد من الفرص في حياته ، وإن رمضان لفرصة عظيمة لتقوية الإيمان والتزود من الطاعات والتوبة النصوح لرب الأرض والسماوات ، والندم على ما فات من التقصير والهفوات في حق النفس والأهل والجيران والأرحام والناس من حولنا . لذلك ينبغي أن يكون رمضان هذا العام مختلف عن غيره من الأعوام حتى لا يستمر التفريط والتقصير ، وينتقل الإنسان إلى الدار الآخرة وليس له من العمل الصالح ما يبلغه رضوان الله وجنته، قد غرته دنياه وإمهال الله له وأعجب بأمواله وأتباعه وصحته وأولاده فتكون خسارة ما بعدها خسارة .. قال تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) (الكهف/103-105) .
إنه ينبغي لمن أراد أن يستفيد من شهر رمضان هذا العام ويكون نقطة تحول في حياته أن يركز على أولويات هامة وضرورية من الأقوال والأعمال والسلوكيات ، ويعزم على القيام بها ويربي نفسه عليها حتى تستقيم حياته ويسعد في آخرته ، فهو شهر الخيرات والنفحات الربانية ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدومه فيقول: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" رواه النسائي) .
وإنَّ أهمَّ هذه الأولويات التي يجب أن يسارع كل مسلم للقيام بها : هي التوبة من الذنوب والمعاصي ، ورد الحقوق والمظالم إلى أهلها ، والعزم على عدم العودة إلى ذلك ، فالتوبة هي شعار المتقين ودأب الصالحين ، روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة " فكيف برمضان شهر الغفران والرحمات و الذي لله فيه كل ليلة عتقاء من النار.
فرمضان فرصة لمن فرط وقصر وتساهل وتعدى على حدود الله ، فرصة لمن كذب وزور وخان الأمانة وتنصل من المسئولية ، فرصة لمن كان فعله وسلوك سبباً لفساد المجتمع وانتشار الرذائل وترويع الآمنين وتخويف الناس وإقلاق السكينة أن يتوب إلى الله .
والصوم يهذب سلوك المسلم وخلقه ويحرك ضميره نحو الخير ، وهو يساعد على تحقيق التوبة النصوح وتقوى الله ومراقبته والخوف منه ، وتلك هي ثمار الصوم قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183] ، ويقول صلى الله عليه وسلم-: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) وإن المحروم في رمضان من حرم فيه الخير ولم يتزود منه ولم يعمل فيه أعمالاً تقربه من ربه وتسعده في دنياه وآخرته .
عبــــــاد الله : ومن أولويات المسلم في رمضان المحافظة على الصلوات جماعة في بيوت الله ، والتزود من النوافل والمحافظة على ذكر الله .
والإكثار من القرآن قراءةً وسماعاً وفهماً وتدبراً وعملاً والتزاماً في واقع الحياة ، فكم من مسلم هجر القرآن في حياته فتحولت إلى تعاسة وشقاء وذهبت الراحة من الطمأنينة من القلوب وهو دستور أمة الإسلام وسر قوتها وعزتها ، والمسلم يجب أن يرتبط بهذا القرآن في رمضان وغير رمضان وأن يكون له ورداً من القرآن في كل يوم في رمضان وغيره ، وأما في رمضان فإنه شهر القرآن قال تعالى { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ البقرة:185 ]، وهو موسم مدارسة القرآن حيث كَانَ المصطفى صلى الله عليه وسلم ( أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ) [ رواه البخاري ]، والشفاعة تربط بين رمضان والقرآن فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ ) [ رواه أحمد ] .