إن شكر نعم الله -تعالى علينا واجب في كل حين فما من نفس نبديه إلا ولله علينا منة فيه, وسبيل شكر النعمة يكون بالعمل فيها بما يحبه تعالى, وقد بين ﷺ لنا فضل استعمال نعم الله- تعالى فيما يحب في أحاديث عدة, ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه -أنه سمع رسول الله ﷺ- يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم, فبعث إليهم ملكا, فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن, قد قذرني الناس قال: فمسحه, فذهب عنه فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا, فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل, فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها, وأتى الأقرع فقال له مثل ذلك, فطلب شعرا حسنا وبقرا فأعطي ما طلب وأتى الأعمى فقال له مثل ذلك, فطلب أن يرد الله له بصره وغنما, فأعطي ما طلباقال: فأنتج هذان, وولد هذا, كان لهذا واد من إبل, ولهذا واد من بقر, ولهذا واد من غنم ثم أتى الأبرص في صورته وهيئته, فقال: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري فقال له: إن الحقوق كثيرة فقال له: كأني أعرفك, ألم تكن أبرص يقذرك الناس, فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت وأتى الأقرع في صورته وهيئته, فقال له مثل ما قال لهذا, فرد عليه مثل ما رد عليه هذا فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت وأتى الأعمى في صورته, فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري, فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك, أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري, وفقيرا فقد أغناني, فخذ ما شئت, فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال: أمسك مالك, فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك, (صحيح البخاري)
بهذه القصة علم ﷺ أصحابه وأمته من بعده أن الله تعالى يبتلي عباده أحيانا بإسباغ النعم ليرى أيشكرونها أم يكفرونها, قال تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) وإنما يكون الحفاظ على النعمة كما تعلمنا القصة بدوام شكرها, فبشكر النعمة نحافظ بها على الموجود ونستجلب المفقود, وقد وعدنا سبحانه بالزيادة إن شكرنا نعمه, فقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )
والقصة ترسم لنا طريقين لشكر النعمة :
أولهما: أن يكثر من أنعم الله عليه بالثناء على الله صاحب النعمة, وألا يتلفظ بلفظ أو يصنع شيئا يدل على نكرانه لهذه النعمة, وأن يقر بأنها في الحقيقة من عند الله تعالى ولا يد له فيها وقد قيل: من كتم النعمة فقد كفرها, ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها وأولى خطوات ذكرها الوقوف عليها ومعرفتها, يقول الإمام الغزالي: اعلم أنه لم يقصر بالخلق عن شكر النعمة إلا الجهل والغفلة, فإنهم منعوا بالجهل والغفلة عن معرفة النعم, ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها (إحياء علوم الدين)
والطريق الثاني: أن يسخر النعمة فيما خلقت له, فإن أنعم الله عليه بمال فلينفق مما أعطاه الله, وإن أنعم الله عليه بقوة فليعن من يستعين به, وإذا أنعم الله عليه بجاه فليشفع في الخير وفي إعطاء المظلوم حقه والله -تعالى يشير إلى هذا الطريق العملي من الشكر في قوله عز وجل: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وقد بينت القصة نسبة تلك القلة المذكورة في الآية على سبيل بيان المحمل فذكرت أن ثلثي الخلق -على وجه التقريب- لا يتحققون بخلق شكر النعمة, في حين لا يقوم به إلا الثلث الباقي, والثلث في مقابل الثلثين قليل, إذا ما نظر إلى حجم النعم وعظمة معطيها.
ولذا وجب على كل إنسان أن يحمد الله ويشكره على نعمه التي لا تحصى, وأن يتبع المنهج الذي أبانه ﷺ في القصة للحفاظ عليها بشكرها واستخدامها في طاعة الله حتى لا يعرضها للزوال, قال ابن عطاء الله السكندري: (من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها, ومن شكرها فقيد قيدها بعقالها) فاللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمك, العاملين فيها بما تحب