أجل، فما من الوطن بدّ، وما للإنسان عنه من منصرف أو غنى. في ظله يأتلف الناس، وعلى أرضه يعيش الفكر، وفي حماه تتجمع أسباب الحياة. وما من ريب أن ائتلاف الناس هو الأصل، وسيادة العقل فيهم هي الغاية. وكما لا قيمة للأرض اذا غدت قيعاناً لا تمسك ماء، ولا تنبت زرعاً، فإنه لا قيمة للوطن إذا لم تقم من فوقه رمح جامعة، ولم يترعرع في حناياه فكر متبصر حرّ، ولم تتجمع فيه أسباب العيش الكريم. بل قل: إنه لا يبقى للوطن من وجود إن لم يتوفر فيه هذا كله، فإنه إنما يتخذ حصنه وملاذه من هذه الثمرات ذاتها، وقد علم التاريخ و رجاله أنه ما حافظت أمة على وطنها بوقاية خير من العقل الحر، تخلص في اتباعه، والمبدأ الواحد المستقيم تجمع شملها عليه، وما ضيعت أمة أوطانها بشر من الأهواء الجانحة إذ تمعن في اتباعها، والسبل المنحرفة إذ تمضى أوزاعاً في متاهها..! والرقيب الذي إليه تدبير هذا الأمر كله إنما هو الإسلام... فقد علم الإسلام أهله الذين مارسوه عقيدة وعملاً، أن يجعلوا من أوطانهم سلاحاً للدفاع عن القيم والمبادئ التي لا تستقيم الحياة بدونها. وبيَّن لهم أن فعلوا ذلك تحولت هذه القيم في أيديهم إلى أعظم سلاح يحمي لهم تلك الأوطان، ويقيها من كل عادية وسوء. أما ان جعلوها مرتعاً للأهواء، ومصطرعاً للسبل المهزوزة المنحرفة، فإن ذلك سرعان ما ينقلب سلاحاً للقضاء عليها وباباً يتسلل منه الأعداء إليها. لقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وكانت مكة وطناً حبيباً إليه، ولكن الله عز وجل أراد له أن يتخذ من هذا الوطن الحبيب أرضاً لغراسة القيم والمبادئ. حتى اذا أينع الغرس، جعل من وشائجه وأغصانه سياجاً وحماية له. ولما استعصت الأرض على الغراس، وضاعت فيها جهود الزراعة والاستنبات أراد له الله عز وجل أن يتحول عن ذلك الوطن إلى غيره. فإن الوطن الذي لا خير فيه لحماية عقيدة ولا مبدأ، لا يبقى على نفسه ولا على أصحابه. فتحول عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن في قلبه من مفارقته لحسرة وألماً... وقال له وهو مهاجر عنه، والله إنك لأحب بلاد الله إليّ ولو أن أهلك أخرجوني لما خرجت. لقد فارق وطنه الحبيب، لأن حق الله تعالى أحب الى قلبه منه، ولم يكن في شأنه ذاك إلا كشأن ابراهيم من قبله، إذ اعتزل أباه على حبه له وشدة فراقه عليه. وقال له وهو منصرف عنه (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً) ولقد فعل أصحابه مثل ذلك، فهجروا الوطن والدار، وفارقوا العشيرة والربع، واستغنوا عن المال والأهل، واستبدلوا بذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلقوا معه إلى حيث ينتجعون الهدى ويبلغونه الناس، واستقبلهم يثرب بوبائها وسوء مناخها، فما منهم إلا من أصيب منها بوباء أو علة. واجتمع عليهم إلى الفقر الذي لم يألفوه المرض الذي لم يعرفوه، حتى فاض الحنين عليهم من ذلك في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبسط يديه إلى السماء قائلاً: (اللهم حبب إلينا يثرب كما حببت إلينا مكة وانقل وباءها إلى مهيعة). أتراهم قد ضيعوا الوطن بهذا الذي فعلوه...؟ هكذا يبدو عملهم في ظاهر الأمر، وهكذا يتصور من لا يستطيع أن يعالج المحسوسات إلا بمثلها. ولكن الحقيقة أنهم إنما دافعوا بذلك عن الوطن، بل إنهم لم يكن أمامهم من سبيل لحفظه وتحصينه إلا هذا الذي فعلوه، هكذا علمهم الإسلام، وبذلك أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد علمهم الإسلام أن استبقاء الأرض والمال والأهل والسلطان، إنما يكون باستبقاء أساس ذلك كله، وإنما أساسه تقويم منهج الحق وإقامة صرح العقيدة الصادقة في القلوب. وقد يبدو للذي يتخلى عن هذا الأساس، ويمضي متشبثاً بمظهر الأرض وما عليها أنه محافظ على ذلك كله متمكن منه، وإنما هو في الحقيقة قد يسر السبل إلى انفلاته وضياعه، ولا يغنيه أن يشتد في التشبث به إلا كما يغني الرجل أن يحبس الماء في داخل يديه، وقذ يبدو للذي ينصرف عنه إلى رعاية الأساس وحفظه أنه انما ضيع بذلك ما يظلّ الناس يتسابقون إلى امتلاكه ورعايته والتضحية بكل شيء في سبيله، وانما هو في الحقيقة ممسك بينبوع ذلك كله. إن الذي يخيره اللصوص بين أن يقتلعوا أشجار بستانه، أو يستلوا الثمار التي عليها، يعد أحمق مجنوناً لو تعلق بالثمار ومكنهم من اقتلاع الأشجار وأن توهم عند نفسه أنه حافظ بذلك على غاية جهده ونتيجة سعيه...! وهذه هي الحكمة العليا من تدرج كليات المصالح في حكم الشريعة الاسلامية بدءاً من أهمها وهو الدين، فالحياة، فالعقل، فالنسل، فالمال. فإن أهمية السابق منها إنما تأتي بسبب أنه حصن ووقاية للذي يليه، فالدين ليس أهم في حققته من الحياة في مظاهرها الجزئية إلا لأنه هو الوقاية الحقيقية لها، ولا ينافي ذلك أن يضحي الانسان بحياته من أجل سلامة الدين، إذ الشأن في ذلك كالقصاص الذي لا تنافى في أن يكون هو ذاته أقوم سبيل للمحافظة على الحياة. إذاً فلقد كان في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عن الوطن، في سبيل حماية الدين خير وسيلة للدفاع عن الوطن وتحصينه، ولم تكن السنوات الثمان في عمر هجرته عليه الصلاة والسلام وهجرة أصحابه، إلا منهجاً بيناً راسخاً لتحقيق هذه الوسيلة، ولم يكن هذا خفياً إلا عن أعين من خفيت عنهم حقيقة الإيمان بالله ورسوله. ولكن الأمر بعد ذلك أصبح واضحاً للجميع. بعد سنوات ثمان... أدرك التاريخ وجميع من يؤمنون به، أن شيئاً من مظاهر البؤس والضيعة والشتات عن الوطن لم يذهب بدداً، ولم تهدر نقطة دم لمسلم هدراً، ولم تطف المحنة عليهم _ ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم _ لأن رياح المصادفة ساقتها إليهم، ولكن كل ذلك كان يجري وفق حساب... وكل ذلك كان أداء لأقساط من الثمن.. ثمن النصر والفتح وامتلاك الوطن السليب. ها هم أولاء قد رجعوا إلى الوطن والأهل والمال، وقد كثروا بعد قلة وتقووا بعد ضعف واستقبلهم أولئك الذين أخرجوا بالأمس خاشعين أذلاء خاضعين..! وهل تذكر بلالاً، وهو الذي طالما عذب فوق رمضاء مكة على أيدي المشركين؟ ها هو اليوم يصعد على الكعبة المشرفة ينادي بأعلى صوته: الله أكبر... الله أكبر.. ذلك الصوت الذي كان يهمس يوماً ما تحت أسواط العذاب: أحد .. أحد .. ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى _ لا إله إلا الله محمد رسول الله، والكل منصت خاشع!! ألا إنها لحقيقة واحدة كبرى لا ثانية لها _ هي الإسلام، فما أجهل الانسان حينما يكافح أو يناضل أو يجاهد في غير سبيله.!! إنما يكافح حينئذ عن وهم لا حقيقة له ولا طائل منه. لقد كانت العبرة التي علمها الله تعالى عبادة من خلال أمره للرسول عليه الصلاة والسلام بالهجرة، هي: أن الدين الحق اذا فقد أو غاب،لم يغن من ورائه الوطن أو المال والأرض، بل سرعان ما يذهب كل ذلك من ورائه، أما إذا قوى شأنه وقامت في المجتمع دعائمه ورسخت في الأفئدة عقيدته فإن كل ما كان قد ذهب في سبيله من مال وأرض ووطن يعود .. يعود أقوى منه عندما ضحى أصحابه به، حيث يحرسه سياج من الكرامة والقوة والبصيرة. وتلك هي سنة الله في الكون.! فلقد شاء أن تكون القوى المعنوية هي الحافظة للقوى والمكاسب المادية... فمهما كانت الأمة غنية في خلقها وعقيدتها السليمة ومبادئها الاجتماعية الصحيحة، فإن سلطانها المادي يغدو أكثر تماسكاً وأرسخ بقاء وأمنع جانباً. ومهما كانت فقيرة في خلقها مضطربة في عقيدتها، تائهة أو جانحة في نظمها ومبادئها فإن سلطانها المادي يصبح أقرب إلى الاضمحلال والزوال. وقد تصادف أن تجد أمة تائهة في عقيدتها عن جادة الصواب، منحطة في مستواها الخلقي والاجتماعي، وهي مع ذلك واقفة على قدميها في الحياة، لها بسطة في القوة والمنعة والسلطان ولكنها تمضي في الحقيقة وواقع الأمر، بسرعة مذهلة، نحو هاوية سحيقة. وطبيعي أنك لا تحس بحركة هذا المضيّ السريع، وذلك لما تعلمه من قصر عمر الانسان أمام طول عمر التاريخ والأحقاب. إن مثل هذه الحركة إنما تبصرها عين التاريخ، لا عين الإنسان الغافل الساهي...!! أرأيت إلى الرجل يقف على ظهر سفينة عظيمة تمخر عباب البحر إلى الغرب، ماذا عسى أن يكون من معنى لسعيه الحثيث فوقها نحو جهة الشرق؟! إن الأمم التي تقوم حياتها على قيم جانحة، وأخلاق منحطة، وعقيدة تائهة _ إنما تسير نحو مصيرها بدافع من هذه العوامل، لا بدافع من هياجها أو حركة أفرادها - وربما اغتر الناظر بما قد تتمتع به من سيما النعمة ومظاهر القوة وأسباب الحياة، ولكن هيهات أن يغتر المفكر في واقع أمرها، المتأمل فيما أعقبته تلك العوامل من آثار خطيرة في نفوسها. وما رأيت أسخف ممن يضرب المثل على عكس ما نقول، بدولة كأميركا، ولدت في الوجود أول البارحة، وتتطوح بها الأدواء الخطيرة اليوم، لتعلن عن نهايتها بعد غد...!! ويستدلّ على وهمه، بما في أيديها اليوم من أرقام الغنى وبما ينبسط تحت سلطانها من مظاهر البطش وأسباب النعيم...! ماذا يفيدها هذا كله إذا لم يكن شيء منه يصنع لأفرادها إلا مزيداً من أسباب العقد النفسية والانحراف العقلي والضيق بالدنيا وأسبابها...؟! ماذا يعني ذلك كله من أسباب الحياة، إذا لم يكن شيء من ذلك كله يساهم إلا في رفعة نسبة من يؤثرون الانتحار والموت على التقلب في أسباب البذخ والنعيم...؟ وما بال علمائهم الفكريين والنفسانيين قد شغلوا عن متعة الدنيا وأسبابها بالعكوف "في رعب وهلع" على دراسة هذه الوقائع العجيبة المذهلة وتبين أسبابها، وما بالهم يضربون نواقيس الخطر على أسماع القادة دون هدوء ليكونوا على بينة من هذا البلاء الداهم العجيب ؟ ألم يتجسد هذا كله في أروع تسمية أطلقها أحد الروائيين على واقع هذه الأمم والأيام العصيبة التي تعيش فيها دون أن تحس بخطورتها المرعبة: "الساعة الخامسة و العشرون". وإنه لعجيب حقاً أن تجد بعض الناس ينظر _ مع هذا كله _ إلى الرجل الذي يمضي مسرعاً فوق ظهر السفينة إلى جهة الشرق، دون أن يلتفت إلى الدنيا العظيمة التي تشق طريقها تحت قدميه إلى الغرب.!! ينظر إلى الصاروخ الذي ارتفع في الجو، أو الانسان الذي طار إلى القمر، أو البذخ الذي رقصت عليه الدنيا أو خطوط "النيون" التي أضاءت لها ناطحات السحاب _ ينظر إلى كل ذلك على أنه جاء ناسخاً لما كان يسمى بالخلق والقيم، والعقيدة الصادقة عن الكون والإنسان والحياة. لو كان ذلك صحيحاً، لما خلفت لنا ملوك بني الأحمر فوق ربا الاندلس، آثاراً من الصولة والدولة والبذخ والمال، يبكي عليها الغادي والرائح، ويتساءل عن أمرها كل ذي عقل ولب...!! ما بال قصورهم العظيمة وسلطانهم الباذخ ومالهم الوفير،لم يغنهم عن القيم التي أهملوا الكثير منها...؟ ألم تقم دولتهم، يوم قامت، على رجال غرباء كانوا فقراء في كل شيء إلا في العقيدة الصادقة الراسخة في قلوبهم، والخلق الاسلامي العظيم المسيطر على حياتهم، ثم هل تقوضت دولتهم، يوم تقوضت إلا على رجال كانوا أغنياء في كل شيء، إلا في تلك العقيدة الراسخة وذلك الخلق الإسلامي العظيم... ومع ذلك، فإن التاريخ وحده، هو الذي كان يرصد انطلاقتهم السريعة نحو وادي الهلاك في تلك الليالي التي كان يضج من حولهم فيها الضياء، وتسكرهم فيها نشوة اللهو والترف... فإن رأيت أمة قد فقدت في حياتها هذا الحرز، ومع ذلك فهي تتقلب في مظاهر القوة والبطش والنعيم، فاعلم أنها ماضية إلى حتفها ما في ذلك شك.وقد يقصر الطريق أو يطول. ولكن النتيجة آتية لا ريب فيها. واذكر وأنت ترى ذلك قول فاطر السموات والأرض: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) . صدق الله، وآمنت بكلامه وسنته في العالمين...
|
||||||||
|