الجامع الأموي » خطب الجامع الأموي

الجبارين وسفاهتهم

الشيخ مأمون رحمة


الجبارين وسفاهتهم

بتاريخ: 20 من جمادى الأول 1438 هـ - 17 من شباط 2017 م

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.

عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.

يقول المولى جل جلاله في محكم التنزيل:) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ([المائدة: 62-64].

معاشر السادة:كأن غرور الجبارين وسفاهتهم من اللوازم التي لا تنفك عن ذويها أبداً، لقد كانوا في الدنيا أغبياء عندما صادروا العقائد وحاربوا الشرفاء وضيقوا عليهم الخناق، وإنهم لكذلك في الدار الآخرة، لم تفارقهم هذه الغباوة ولم يستحوا أن يتساءلوا: )مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (، كيف ترونهم وأين؟ لقد ارتفع كتابهم في عليين، على حين هويتم أنتم حتى صرتم أسفل السافلين، لقد حسبتم أنفسكم عظماء لأنكم ملكتم وحكمتم، وحسبتم أنفسكم أقوياء لأنكم قتلتم وظلمتم، فاليوم بعدما أعزهم الله وأذلكم تتساءلون: )مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَار(؟.

إن إهداء النعوت السخيفة ديدن السفهاء في كل زمان، ووصف الأطهار الأبرياء بأنهم أشرار أشقياء ليس بدعة هذا الزمن، فإن الكفار في عهد الدعوة الأولى كانوا يسمون النبي العظيم مُذَمَّماً، وهو أحق بشر بالحمد في مشارق الأرض ومغاربها، ولقد علق صلى الله عليه وسلم على هذه التَّسمية بقوله: ((ألا تعجبون كيف يَصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مُذَمَّماً وأنا محمداً)).

وبهذه المواجهة الحصيفة لتطاول السفهاء يموت الخصوم بغيظهم، ويُؤدي النبي صلى الله عليه وسلم رسالته في مَضاء وإصرار، وما انطلق عظيم في هذه الحياة إلى غايته حتى يواجه من الكيد واللئم عقبات وعقبات، وستظل القوى الغاشمة تمضي على غيها وتطارد أصحاب الحق دائماً، وإلى هذه الحقيقة أشار القرآن بقوله سبحانه: )كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ([البقرة: 118].

إن لبس الحق بالباطل عمل برع فيه كثيرون وضل به الأكثرون، ولذلك قال الله لأحبار اليهود: )وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ([البقرة: 42].

لقد تحدث القرآن كثيراً عن الأتباع يلحقون متبوعيهم في نار جهنم، لكي يَفطم النفوس عن هذه التبعية الذليلة، حيث قال سبحانه: )قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ( [سبأ: 32], وقال سبحانه: )وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّـهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَاد( [غافر: 47-48].

هذا المعنى تكرر عدة مرات في القرآن الكريم، حتى لا يكون في هذه الأمة أتباع مسحورون بقوة السلطة، وحتى لا يكون هناك مَن فقد ضميره وإرادته وعقله وهو مخدوع بجبروت الجبارين، وقد بين القرآن أن هذا الجبروت هالك في الدنيا، ولن يغني عن أصحابه شيئاً، هؤلاء الجبابرة سيتبرؤون من أتباعهم يوم القيامة، وعندئذ يقول الأتباع المقهورون الأذلة: )لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّـهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ( [البقرة: 167].

إن تزوير العناوين وتحريف المفاهيم أسلوب شائع في محاربة الحق ومطاردة أهله مع مجافاته الشديدة للواقع المقرر المأنوس، فالرجل الذي يُدافع عن أرضه وعرضه وتاريخه وتراثه يوصف بأنه مجرم، والطارئ المغير الذي يغتصب الأرض وينتهك العرض يوصف بأنه صاحب حق، وهذا البلاء ليس بدعة العصر الحديث الذي بلغ الغاية في تشويه الحقائق والطعن بالشرفاء الأطهار، بل هو منطق المجرمين على امتداد الزمن وتطاول القرون، لقد حكى القرآن الكريم مقالة فرعون لما استباح دم موسى وقرر قتله: )وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ( [غافر: 26فرعون الغيور على الدين المحب للصلاح والإصلاح يَخاف من أن يُفسد موسى في الأرض وينشر فيها الفوضى والخراب، أي أن موسى مفسد وظالم لا يستحق البقاء.

عندما ترى بعينك وتسمع بأذنك كيف يزور التاريخ وتستخفي الحقيقة ويُخدع الناس، فإنك تقول: إن الأجيال المقبلة معذورة عندما تَضل السبيل وتتبع الأباطيل، ألا يَطول عجبك -أيها المسلم, أيها العربي- عندما تَسمع ساسة الغرب يقولون: نحن نرفض الإرهاب الدولي، وسوف نقاومه بكل سلاح؟!.

إن العالم كله يعرف أن ساسة أوربا وأمريكا هُم الذين صنعوا المآسي كلها، ولا يزالون يمدون اليهود الصهاينة وأذرعهم بالمال والسلاح، لكي يضعفوا هذه الأمة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وثقافياً، وعلى الرغم من كل هذه الجرائم والفظائع التي تقع في العديد من البلدان العربية فإنك تجد الغرب لا يبالي بما يحدث هنا أو هناك، أما إذا تعلق الأمر بأمنهم وأمن حليفتهم الفاشية إسرائيل تجد الألسنة تَنطلق بالتهديد والوعيد والإدانة والاستنكار، عندما انسحب اليهود من لبنان اختطفوا نحو سبعمائة شاب وحبسوهم في سجن "عتليت"، وصرخ الأهل والأصدقاء يطلبون ترك المخطوفين، فما رق لصراخهم أحد وكأن شيئاً لم يحدث، وعلى إثر ذلك غضب نفر من أولي النجدة والحمية، فقاموا باختطاف طائرة أمريكية، وأعلنوا أنهم لن يدعوا مَن فيها حتى يتحرر الأسرى مِن سجن "عتليت"، كانت الشتائم تنهال على رؤوس الخاطفي وتنعتهم بأقبح الأوصاف، وكان غضب الولايات المتحدة يغلي ويفور، والرئيس الأمريكي "ريجان" يُرغي ويُزبد، وبعد ذلك تم الإفراج عن الأسرى المختطفين وعادت الطائرة إلى أصحابها، الشيء الذي يدعو للتأمل أن أحداً لم يَلُم اليهود على جرائمهم وعلى استرقاق المئات من الشباب، ولم يعتب أحد على الولايات المتحدة لِسكوتها المهين على تلك الجريمة وعشرات أمثالها، لأنه لا كرامة للعرب خافوا أم أمنوا، رضوا أم سخطوا.

وهنا سؤال يطرح نفسه: ما هو الدواء الناجع الذي يُصلح الأمة ويَشد من أزرها ويُحصنها من العلل والتفكك؟.

إنَّ الصلح بين الأفراد والشعوب هو الدواء الناجع، وهو المعين الذي يسيل بالخير والحياة، ولذلك قال الله جل شأنه عن الصلح: )وَالصُّلْحُ خَيْرٌ( [النساء: 128]، وإن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم حذرنا من أن نسفك دماء بعضنا البعض، عندما قال في الحديث الصحيح: ((لا ترجعوا بعدي كفاراً يَضرب بعضكم رقاب بعض)).

إن الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في سوريا واليمن والعراق وليبيا وفلسطين لا يُمكن أن تتوقف ما لم يتحقق الصلح أولاً بين القوى الكبرى في العالم، فعندما يتحقق الصُّلح بين هذه القوى الكبرى فإنه يَتحقق في البلاد العربية، وتدور عجلته بسرعة أكبر، والتاريخ أكبر شاهد على ما نقول.

في الحرب العالمية الأولى ألحت ألمانيا على حلفائها على طلب الصُّلح، ولكن الرئيس الأمريكي "ويلسن" أعلن في الثالث والعشرين مِن أكتوبر من عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر باسم الحلفاء أنه يقبل إعلان الهدنة إذا ما أقره جميع الحلفاء على ذلك، وإذا ارتضت ألمانيا الخضوع للشروط التي أعلنها الحلفاء وفي طليعتها تعهدها والتزامها بما سَوف يُوضع مِن شروط وضمانات للحيلولة مستقبلاً دُون وقوع عدوان ألماني جديد، وأن يتأكد العالم أنَّ زِمام ألمانيا لَن يَكون في يوم ما بيد أولئك الساسة الذين تسببوا في الكارثة التي حلَّت بالعالم، وقبلت ألمانيا بالشروط المملاة عليها، وبهذا انتهت الحرب على الصورة التي أرادها الحلفاء لنهايتها بعد أن طحنت رحاها ثمانية ملايين زُهقت أرواحهم في المعارك، وبعد أن خلفت وَرائها ثلاثين مليوناً مِن الجرحى والمشوهين، وخلفت من الكوارث والدَّمار والخراب ما تَنفطر له القلوب وما اكتوى بناره المنتصر والمهزوم على السواء، والتاريخ اليوم يُعيد نفسه.

في الثالث عشر مِن هذا الشهر الجاري، كان هناك مؤتمر صحفي بين "لافروف" وزير خارجية روسيا الاتحادية وبين نظيره وزير خارجية مَنغوليا، قال "لافروف" بالحرف الواحد: نأمل أن نحصل على تعاون أكبر من الإدارة الأمريكي بما يخص مكافحة الإرهاب.

يا سادة: لَقد أَصبح الأمر وَاضحاً وعلنياً للقاصي والداني والأعمى والبصير والعالِم والجاهل أن سوريا هي سَاحة صراع تتصارع عليها القوى الكبرى في العالم، وإنَّه لَيؤسفني أن أقول: كان هذا الأمر بسبب أبناء أو بعض أبناء هذا الوطن مع الأسف، واليوم الحال الذي وصلنا إليه هذا التَّصارع الدولي وهذا التصارع الإقليمي، الذي جعل من هذا الوطن الحبيب مع الأسف ساحة للصراع، لا يُمكن أن ينتهي هذا الصراع وهذه الحرب ما لم يُجمع الغرب قاطبة ويُجمع العالم قاطبة على الضَّغط الشديد على يد الولايات المتحدة الأمريكية، ليقول: "لترامب" ومن قبله "لأوباما": كفوا عن عدوانكم وكفوا عن إجرامكم.

إن السياسة الأمريكية هي سياسة قتل وخراب ودمار وإبادة في شعوب العالم لاسيما في الوطن العربي، فعندما يصطلح الكبراء يصطلح أذنابهم وأتباعهم، لأن الصَّلح يقطع الدولار، لأن الصلح يقطع التمويل، لأن الصلح يَقطع التوجيه لهم، فما دامت القوى الكبرى تتصارع مع بعضها دون قطع للإمداد والتمويل والتوجيه فإنك ستجد هناك مِن الفصائل المسلحة مَن يَظن نفسه أنه يَستطيع أن يملك العالم بأسره مِن خلال بندقيته الجبانة، من خلال عقله العفن والأعوج، فإنك تجده يقول: أنا لا أريد صلحاً، أنا أريد أن أقاتل، أريد أن أستمر في ثورتي في نضالي، هذا الأمر هو الذي يزيدنا مأساة، هذا الأمر هذا الواقع المفروض علينا هو الذي يزيدنا معاناة، فإنني أناشد كل سوري مِن أبناء هذا الوطن، ممن شربوا من فيجة هذا الوطن، ممن تنفسوا من هواء هذا الوطن، ممن نبت لحمهم على تراب هذا الوطن، أقول لهم: عودوا, عودوا إلى أرضكم، عودوا إلى وطنكم، كونوا خدماً لله ولرسوله ولدينه ولوطنكم، ولا تكونوا خدماً لأولئك الذين يعرفون من ولدهم، ولا يعرفون مَن زرعهم في الأرحام، فالصلح الذي نسعى إليه وننشده يَتعلق بين القوى الكبرى في العالم، هل تُدرك ذلك أيها السوري, أيها العربي؟!.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.


 

الخطـــــــــــــــبة الثانيــــــــــــــــــــــــــة:

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله اتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، وأن الله غير غافل عنكم ولا ساه.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارحمنا فإنك بنا رحيم، ولا تعذبنا فإنك علينا قدير, اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً غدقاً طبقاً مجللاً إلى يوم الدين, اللهم إنا نسألك أن تنصر رجالك رجال الجيش العربي السوري, وأن تكون لهم معيناً وناصراً في السهول والجبال والوديان, اللهم إنا نسألك أن تنصر المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله, وأن تُثبت الأرض تحت أقدامهم, وأن تُسدد أهدافهم ورميهم يا رب العالمين, اللهم وفق القائد المؤمن والجندي الأول بشار الأسد إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وخُذ بيده إلى ما تحبه وترضاه، وخُذ بِيده إلى ما تحبه وترضاه، وخُذ بيده إلى ما تحبه وترضاه، واجعله بِشارة خير ونصر للأمة العربية والإسلامية, )سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(.

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=336&id=4161