الجامع الأموي » خطب الجامع الأموي

التــــوبة

الشيخ مأمون رحمة


التــــوبة

بتاريخ: 25 من صفر 1438 هـ - 25 من تشرين الثاني 2016 م

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.

عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.

يقول المولى جل جلاله في محكم التنزيل: )الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيم ( [غافر: 7].

معاشر السادة: التوبة كلمة شائعة على الألسنة، وكأن تداولها على الألسنة أمر هَيِّن، مع أن دلالة الكلمة تجعلها أخطر مِن أن يُجازَف بها, هل يَلغو الإنسان فيقول: بنيت قصراً؟ أو يَلغو فيقول: ألّفت كتاباً؟.

إن بناء قصر شاهق أهون من بناء نفس خربة، وإن تأليف كتاب قيم أرخص من تأليف نفس فرّق الهوى أقطارها، والتَّوبة هي هذا البناء والتأليف، فمن الهزل العجاب أن تدور كلمة التوبة على الألسنة دون تَيقظ وإدراك، والتوبة في نَظر الإسلام جهد لا بد أن يقوم كل إنسان به, ولَن يُغني عنك أحد في أدائه، إذا اتسخ ثوبك فلن ينظفه أن يغسل جيرانك ثيابهم، وإذا زاغ فِكرك فلن يصلح إلا أن يهتدي هو إلى الصواب، واستحقاق الرضوان الأعلى لا يجيء إلا من هذه السبيل، فلا قرابين ولا شفعاء، وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله سبحانه: )مَنِ اهتَدى فَإِنَّما يَهتَدي لِنَفسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزرَ أُخرى( [الإسراء: 15]، فالخطأ في حق الله لا يُداويه إلا اعتذار المخطئ نفسه، فلو اعتذر عنه أهل الأرض جميعاً وفي مقدمتهم النَّبيون وبَقي هو على عِوج نفسه، فلن يُقبل عنه اعتذار، ولن ينفعه استغفار، لا بد أن يجثو المذنب في ساحة الرحمن، ثم يهتف من أعماق قلبه: )رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ([المؤمنون: 118]، لِيُأَمِّل بعد ذلك في مغفرة الله ورحمته.

وهنا سؤال يطرح نفسه: هل ما نراه من معاصي وزلات يكون نابعاً من الجحود والإصرار؟

هناك أخطاء تقع دون أن تتجه إليها الإرادة اتجاهاً بيِّناً، بل تَكاد تقع دون إرادة.

خذ مثلاً على ذلك: عمل الطباع في جمع الحروف والكلمات، إن الكتاب لا يتم طبعه إلا بعد أن تمر كل صفحة بعدة تجارب، فإنك تَرى الأخطاء في التَّجربة الأولى كثيرة، ثم تَقِلُّ أو تنعدم فيما بعدها من تجارب، إن عامل الطباعة يود من أول عمله أن يكون جهده سليماً من كل عيب، وهو بإرادته وبَصره وأصابعه يَجمع الحروف والكلمات على أساس تَحرِّي الصواب، ومع ذلك يقع في الخطأ مرغماً لأن قصور قواه يغلبه.

خذ مثلاً آخر على ذلك: عمل الخياط، فإنك تذهب إليه بالقماش ليصنع لك لباساً مناسباً، فهو يجتهد أن يفصل أجزاء الثوب على بدنك بحيث يصنع منه حلة وسيمة، ومع ذلك فقد يقع من الطول والقصر والسعة والضيق ما يَجعله يعيد التجربة على بدنك مرات عديدة حتى يصل إلى ما يبغي.

إن هذه الأخطاء أثر العَجز البشري في بلوغ الكمال مِن أول سعي، والخطأ هنا يَتولد من تلقاء نفسه تقريباً لا أثر فيه لرغبة أو تَعمد، والواقع أن الإنسان لا يُطيق معصية الله ولا يرضى بها ولا يبقى عليها إن وقع فيها، بل إنما يَعقب المعصية في نفسه من غضاضة وندامة يَجعل عُروضها له شبه مصيبة، فهي تجيء غالباً من غفلة عقل أو كَلال عزم أو مباغتة شهوة، وهو في توقيره لله وحِرصه على طاعته يرى ما حدث منكراً يجب استئصاله، إنه كالفلاح الذي يزرع الأرض فيرى الحشرة ظهرت فيها فهو يَجتهد في تنقية أرضه قدر الاستطاعة من هذا الدَخَل الكريه، ولو بَقي الإنسان طول حياته ينقي عمله من هذه الأخطاء التي تُهاجمه أو مِن هذه الخطايا التي يَقع فيها ما خَلعه ذلك مِن رِقة الإسلام ولا حرمه من غفران الله.

يا سادة: هُناك ظَاهرة سيئة تنتشر بين كثير من الناس، وهي احتقار أهل المعاصي والنظر إليهم بعين السخط والازدراء، وإذا كَتب الله الهداية لأحدهم فإن الناس يَظلون طول حياتهم يَذكرونه بالسوء على ما كان عليه، ولا يذكرونه بالاستقامة التي هو عليها، مع أن الدين حرَّم على أهل الطاعة أن يزدروا أهل المعصية، وذلك لأن القلوب لا يَطلع عليها إلا الله، ولأن الذي يُحاسب العباد هو رب العباد وليس العباد.

قال أحد علماء مصر رحمه الله: أَعرف رجلاً يرتكب كبيرة من الكبائر، فقلت له: لم لا تقلع عن المعصية؟ فبكى ثم قال: ادع الله لي، فأدركت أن الرجل مُؤمن وأن مشيئته معطلة، وتذكرت قول السيد المسيح عليه السلام عندما قال: (لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم وكأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية)، وقال الشيخ: إنني أنبه المتدينين إلى أن يكونوا أصحاب قلوب رقيقة خصوصاً مع من لا يزالون في ظلمات المعاصي، فإن رسول الله حدَّث أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: (من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟! فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك)، هذا سببه أن بعض المتدينين عنده قسوة غريبة، أو يظن أنه ببعض العبادات التي قام بها هو قد مَلك خزائن الرحمة ومفاتيح الجنة، وهذا خطأ فاحش وأمر خطير، لأن ذلك يدل على غرور المرء بنفسه، وإلى هذا الأمر الخطير أشار ابن عطاء الله السكندري بقوله: (رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وافتقاراً).

لَقد حَضَّ الله المؤمنين على التوبة والبعد على المعاصي، حيث قال سبحانه: )وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ([النور: 31], وقال سبحانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ([التحريم: 8]، وهذه التوبة تستهدف أن يكون المسلمون عُنواناً صحيحاً لدينهم، وقدوة لفضائله وآدابه.

لقد تظافرت النُّصوص من الكتاب والسنة على أن أُناساً مِن أهل التوحيد يدخلون النار لعدم استقامتهم، ثم يُخرجون منها بعد قضاء الْمُدَد المحكوم عليهم بها في هذا السجن الأليم، رَوى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيُخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبَّة في جانب السيل، ألم ترى أنها تخرج صفراء ملتوية))؟.

يا سادة: هذا الحديث وأمثاله قاطع بأن مِن أهل الإيمان مَن يُعذب في النار لسوء عمله، على أن سوء العمل يتفاوت، فهناك مَن خلط الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة، فهؤلاء على رجاء المغفرة، وقد أخبرنا الله عن هذا الصنف حيث قال سبحانه: )وَآخَرونَ اعتَرَفوا بِذُنوبِهِم خَلَطوا عَمَلًا صالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّـهُ أَن يَتوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللَّـهَ غَفورٌ رَحيمٌ ([التوبة: 102]، أما مَن عبث وغش وفجر وأفسد ومرد على الشر، فلن يدخل الجنة بأقذاره النَّفسية هذه حتى يتطهر بنار جهنم، فالمؤمن يُعذب على ذنوبه لأمرين:

أولهما: أنَّه أساء في خاصة نفسه، فالجزاء المرصد له عدل.

والثاني: أنَّه أساء للإسلام نفسه، فمِن خلال تصرفاته الرَّعناء جعل الناس يَنصرفون عن الإسلام، ويَفقدون الثقة فيه والطمأنينة إليه، وهل كفرت أمم شتى بالإسلام إلا مِن سلوك هؤلاء؟.

يا سادة: في هذه السنوات السِّت العجاف التي مَرت على الجمهورية العربية السورية خصوصاً وعلى الأمة العربية والإسلامية عموماً، وقع في هذه الأمة معصية لم تقع عبر التاريخ أبداً:

الشق الأول من هذه المعصية: هي القتل، كم قتلت -مع الأسف- المجموعات الإرهابية الكثير الكثير، بل قل الآلاف من الأبرياء، وكم قتلوا من الأطفال، وما نراه من قذائف حقد في حلب وفي دمشق، حتى المجزرة التي وقعت في مدرسة الأطفال في حلب الشهباء، هذه المجازر وأمثالها التي يَقوم بها داعش والنصرة وأخواتهما، هي التي ترفع عنا الرحمة وتُنزل بنا البلاء، هي التي ترفع عنا الرحمة والمغفرة، وتُنزل بنا البلاء.

الشق الثاني مِن المعصية: هي محاربة دين الله، كم وكم هناك مِن أناس نفروا من الإسلام، لأنهم ظنوا أن الإسلام جهاد نكاح وخَطف وقتل وسرقة ونسب واحتيال، كم وكم وقع هناك مِن المعاصي والآثام، المارقون المجرمون المسلحون الفاجرون وأعوانهم ومن يمدهم كانوا السَّبب الأكبر في نزول البلاء على هذه الأمة، لأن القتل والإجرام الذي يحترفون بممارسته وبالقيام به يهز عرش الرحمن، فنحن واجب علينا جميعاً أن نتوب إلى الله سبحانه وتعالى مِن ذنوبنا، فكلنا مُخطئون، وكلنا يُخطئ، وخير الخطائين التوابون، والعبد الصالح هو الذي يعود إلى ربه.

تعالوا -يا سادة- حتى نصلي صلاة الاستسقاء، تعالوا لنؤدي قبلها الحقوق، مَن مِنَّا أدى حقوق الناس؟ أعطوني رجلاً واحداً أدى حقوق الناس حتى نصلي صلاة الاستسقاء، أعطوني رجلاً واحداً أعطى بنته حقها من الميراث بعد أن أعطاها الله، اللهُ أعطاها وهو يحرمها، أعطوني واحداً من الناس رد مخطوفاً إلى أهله، إلى زوجته وإلى أولاده، ألا ترى -أيها المسلم, أيها العربي- أن أنين الطفل عندما يقول: أين أبي يهز عرش الرحمن، ألا ترى -أيها المسلم, أيها العربي- أنما نعانيه في سوريا في اليمن في العراق في كل مكان من هذه المعمورة أن ما نعانيه يجعل القحط والجفاف والبلاء ينصب علينا، فهل من عودة حقيقة إلى الله.

نسأل الله عز وجل أن يَرزقنا التوبة النصوح، وأن يرزقنا الاستقامة ظاهراً وباطناً، إنه خير من سئل وخير من أجاب, والحمدلله رب العالمين.

الخطـــــــــــــــبة الثانيــــــــــــــــ2ــــــــــة:

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله اتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وأن الله غير غافل عنكم ولا ساه.

مَعاشر السادة: بعد صلاة الفَريضة إن شاء الله سنَشرع بصلاة الاستسقاء مباشرة، وسنبذل جُهدنا أن لا نُطيل, ليس الغاية كثرة صلاة أو كثرة دعاء مع أن الدعاء مُخُّ العبادة، والله يحب العبد اللَّحوح، لكن علينا أولاً أن ننظف قلوبنا، وأن نرد الحقوق إلى أصحابها، وأن نستقيم كما أمر الله: )فَاستَقِم كَما أُمِرتَ وَمَن تابَ مَعَكَ( [هود: 112]، عندما نَستقيم نجد أن الخيرات وأن السماء بدأت تنهمر علينا من عطائها ومن بركاتها.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارحمنا فإنك بنا رحيم، ولا تعذبنا فإنك علينا قدير, اللهم ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك, اللهم إنا نسألك أن تنصر الجيش العربي السوري, وأن تكون لهم معيناً وناصراً في السهول والجبال والوديان, اللهم إنا نسألك أن تنصر المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله, وأن تُثبت الأرض تحت أقدامهم، وأن تُسدد أهدافهم ورميهم يا رب العالمين, اللهم وفق القائد المؤمن والجندي الأول بشار الأسد إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وخُذ بيده إلى ما تحبه وترضاه، واجعله بِشارة خير ونصر للأمة العربية والإسلامية, )سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(.

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=336&id=4147