الجامع الأموي » خطب الجامع الأموي

التعاون على البر والتقوى

الشيخ مأمون رحمة


التعاون على البر والتقوى

بتاريخ: 14 من ذي الحجة 1437 هـ - 16 من أيلول 2016 م

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.

عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.

يقول المولى جل جلاله في محكم التنزيل: )وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا( [الإسراء: 29].

معاشر السادة: ورد في الإسلام نصوص كثيرة مفصلة ومجملة، تدعو على التعاون على البر والتقوى، وتحض على القيام بأنواع من الخدمة الاجتماعية التي يحتاجها كثير من الناس، فالشيوخ والعجزة والمتعبون وأصحاب الإصابات المزمنة يَجب أن تبذل لهم المساعدات التي يَحتاجونها والتي يتطلعون إليها، وعلى الأغنياء أن يقوموا بهذا العبء في كل زمان ومكان، فقد روى الإمام أحمد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الدنيا بأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو يَخبط في ماله بغير علم، لا يتق فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله علماً ولا مالاً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فوزرهما سواء)).

الثراء في نظر الإسلام وظيفة اجتماعية لا نعمة شخصية، فإن الإسلام رَبط بالثراء من الحقوق العامة ما لا يُحصى، وجعل الغَني في ثروته كالموظف الذي يُسند إليه منصب ما، فإن قام بأعبائه بَقي فيه، وإلا عزل عنه، مِن هنا تدخل الإسلام في شؤون المال، وراقب تداوله بين الناس وبين للأغنياء، أن المال وسيلة لا غاية، وأن الغرض من جمعه وإنفاقه يجب أن يَستقيم مع الغاية لوجود الإنسان على الأرض، وأن الفضائل المقررة من عدل ورحمة وإيثار يَجب أن تُهيمن على سائر التصرفات المالية، وأن الإكثار والإقلال لا يُسمح لهما بتمزيق أوصال المجتمع، وجعل الرِّفعة والضَّعف على أساس مادي بحت.

إن المجتمع السليم والواعي إذا بُلي بِعَاجزٍ تعاون الجميع على خدمته وإعانته، بل على تكريمه ومواساته، ولكننا نَجد خُلق التعاون لا يزال عندنا ضئيلاً، ولا نزال في حاجة إلى بثه في النفوس إلى أن تعتاده وتذوق حلاوة ثمراته، وقد قرر الفقهاء أن هناك واجباً عينياً في مال الفرد، وواجباً كفائياً في مال الجماعة، يرصدان كلاهما لتلافي العيلة ومحاربة النوائب، والأمة المؤمنة العادلة هي التي لا يَهون فيها رجل، ولا تُظلم فيها كفاية، ولا يغيم فيها مستقبل.

أما تجفيف الأفئدة من حنان الإيمان، وتجفيف المجتمع من تراحم الطبقات؛ فتلك جريمة كبرى، لأنها تُولد الحقد بين أبناء المجتمع، ومن نقائض التاريخ أن المسلمين في عُصور التَّأخر انقسموا فريقين: فريق عزف عن المال وزهد فيه، وفريق انكب عليه وأترف به، فأما الزاهدون المغفلون فقد فَرُّوا من ميادين الكفاح، وكيف ينتصر دِين ليس له في ميادين الكفاح أتباع؟ وأما المترفون فقد نسوا الله وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وهؤلاء حرب على الأخلاق والشعوب، وعلى الدنيا والآخرة.

وهكذا انهدمت الأمة العربية والإسلامية بين القاعدين والفاسدين، وهام مستقبلها يوم هامت عليها وجوه الرشد في سياسة المال، وكما يَستعين الفرد بالمال على صون مروءته وتربية أولاده، تَستعين الدول بالمال على أداء رسالتها وإعلاء رايتها، وبناء الجيوش والمصانع ورد الطامعين والمعتدين.

أكان السابقون الأولون يستطيعون ردع الرومان في تبوك إلا بأموال الأغنياء؟ لقد جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وكان سواد الجيش بعد ذلك مِن أهل الفداء وإن قل مالهم، والأمة العربية والإسلامية اليوم تنتشر على مساحات واسعة، في آسيا وإفريقيا، ويوجد فيها المؤسر والمعسر، وليس في دين الله ولا دنيا الناس أن تكون بين الفريقين جفوة، فأين إذاً أُخوة العروبة والإسلام؟ وأين إذاً مشاعر الجسد الواحد الذي إن تألم بعضه تألم كله؟.

إن أصحاب الفاقة والعاهة يَفترسهم الفقر، وتسترقهم الإعانات المتواضعة، والمطلوب من الأغنياء والمقتدرين أن يُسارعوا إلى نجدة إخوانهم والقيام بحقهم.

إن أصحاب الثروات الكبيرة الذين يَبحثون عن اللذة، ويطيرون إليها حيث كانت، يقترفون جرائم هائلة، وسوف يعاقبون على تصرفاتهم مرتين: الأولى على سفه الإنفاق، والثانية على إضاعة إخوانهم المنكوبين وتركهم يُواجهون فتناً كقطع الليل المظلم، لا يستطيعون منها النجاة.

لقد أصبحنا في زَمان اختلت فيه الموازين، واضطربت الأوضاع، وانتفى التجانس، وكثر فيه الشاكون من التخمة، والشاكون من المخمصة، فهناك أناس ينامون على الديباج، وهناك أناس يتوسدون الوحل، وهناك أناس يقتنون الذهب والفضة، والخيل المسومة، والسيارات الفخمة، ويقضون لَياليهم الناعمة في أماكن اللهو والترف، وهناك أناس يَقضون لياليهم على التأوهات والتوجعات، بعد نهار طال انحناؤهم فيه على الفؤوس، واستنزفوا فيه دماءهم وعافيتهم عرقاً شربته الأرض، فأخرجته ذهباً خالصاً يَملئ جيوب المترفين الناعمين، وهناك أناس يأكلون ما لذ وطاب، وهناك أناس يأكلون الثرى مِن شدة الظمأ والجوع والحرمان.

في هذا الزمان العجاب لا بد لنا من الصراخ الصراخ القوي، الذي يَخرق الآذان الصماء والقلوب القاسية بضرورة رفع العدالة الاجتماعية، لأن هناك الكثيرين يتعذبون ويتألمون في ليلهم ونهارهم، كم تَشعر بالحزن والكآبة، كم تشعر بالحزن والكآبة عندما ترى بعض الأغنياء ينفق أموالاً طائلة وبأرقام فلكية، على الولائم ومناسبات الأفراح وغيرها، في الوقت الذي تجدهم فيه لا يَبحثون عن جريح أُصيب دفاعاً عن أمنهم وحياتهم، ولا يبحثون عن عائلة شهيد، ولا يُفكروا أن يبحثوا عن عائلة شهيد قدمت أغلى ما عندها حتى يعيش غيرها، فقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بئس الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء)).

يا سادة: إن العبادات الغيبية كالعبادات الاجتماعية في إرضاء الله وزكاة النفس وبعض الناس، يجود بالمال ولكنه لا يدري الطريق الصحيح لبذله، وقد اعتبر الإسلام وضع المال في غير موضعه إسرافاً طائشاً، وهذا الإسراف هو لون من السفه والعصيان، فهناك أناس كثر المال في أيديهم، بيد أن أساليبهم في الإنفاق حتى في وجوه الحلال تَحتاج إلى مراجعة.

إن المال سلاح خطير، والذين يُبعثرونه فيما يُجدي وفي ما لا يُجدي يُهددون مستقبلنا، ويُؤسفنا أن نقول بأن اليهود أحرص على المال وأدق في إنفاقه منا.

إن الشهوات الجامحة لا تَقود إلى خير أبداً، كان التنافس قديماً في الكرم والتقوى، وصار الآن يَجري في ميادين أخرى، ولست هنا أتتبع ما يجوز وما لا يجوز، فإنها تكفي القاعدة الدينية التي وضعها القرآن لعباد الرحمن: )وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ([الفرقان: 67].

معاشر السادة: يَعتب السوريون الشرفاء على بعض الأغنياء، الذين تركوا وطنهم وذهبوا إلى أوربا، بعدما حصدوا خيراته، ليكونوا لنا سفراء في ميادين اللهو واللعب، وكم يبلغ عدد هؤلاء؟ يبلغ عددهم بالآلاف، في الوقت الذي نَشكو فيه مِن عض الأزمات بجمهور الشعب، تجد بعثرة مُخيفة من الأموال في البلاد الأجنبية، على نحو يُثير اشمئزاز الأجانب أنفسهم، ماذا نقول لهذا الصنف الرقيع من الناس؟ نقول لهم: لا تعودوا إلى بلد أنتم غُرباء عن عواطفه ومشاعره، بل أنتم أعداء لقضيته ومستقبله.

معاشر السادة: لقد مَرَّ عيدُ الأضحى المبارك على العالم العربي والإسلامي، ومر على هذا الوطن بالآلام والحسرات، فكم هناك مِن عائلة عندها شهيد، وعندها اثنين وثلاثة وأربعة وأكثر، وكم هناك من عائلة عندها جريح، وربما اثنين وثلاثة، ومع كل هذه المآسي والأحزان التي مرت على قلوبهم وحملتها قلوبهم لم يَشعروا بالعيد، في المقابل الآخر هناك أناس أتسرفوا بأموالهم وفرحوا وضحكوا وسعدوا، وكأنه لا يوجد هناك جريح، وكأنه لا يوجد هناك عائلة شهيد، وكأنه لا يوجد هناك مآسي وأحزان، نحن لا نقول بأن الفرح والضحك ليس من الدين، لا، الإسلام دين المرح، دين الحب، دين تغيير الجو في أفعال البر والتقوى، ولكن السوريين الشرفاء يَعتبون على الذين يتنعمون بأموالهم، وينسون أسر الشهداء، وينسون أسر الجرحى.

في صباح هذا اليوم المبارك كُنت أُتابع على قناة الإخبارية السورية المقاومة لقاء مع أحد الشبان من لاذقية العرب، ألف ذاك الشاب -المبتدئ في عمله المبتدئ في حياته وشبابه، لكنه قوي في إيمانه وفي حبه لهذا الوطن- ألف ذاك الشاب فريقاً شبابياً، سماه فريق شباب المحبة، هذا الفريق شُكل من أجل زيارة الشهداء والجرحى على أرض هذا الوطن، ونَحن قلناها سابقاً، عندما تكلمنا عن مشروع نسمة أمل، كيف أردنا أن يتحول ذاك المشروع الذي يَقوم على خدمة الشهداء والجرحى وعائلاتهم، كيف نُريده أن يتحول إلى رياح تمطر سحباً وخيراً وعطاءاً وبركة وأملاً على عائلات الشهداء والجرحى والمنكوبين، ونحن اليوم واجب علينا كجمعيات خيرية جميعاً، وواجب على المقتدرين، واجب على الأغنياء، أن يبحثوا عن الشهداء، وأن يبحثوا عن عائلات الشهداء، كم هو جميل عندما تَجد قوافل المواطنين يتوجهون إلى طرطوس وقراها، يتوجهون إلى جبلة وقراها، إلى لاذقية العرب وقراها، إلى السويداء وقراها، إلى دمشق، في الميدان، في منطقة الشاغور، وإلى كل مكان يوجد فيه جريح، توجد فيه عائلة شهيد، كم هو جميل أن تَجد الناس يأخذون معهم، يحملون في قلوبهم أولاً الحب والاحترام والتقدير، لأولئك الرجال، لأولئك العظماء، الذين لولاهم لضاعت الأمة العربية والإسلامية، ومع كل هذا وذاك فعندما زرت البعض من أسر الشهداء والجرحى في تلك الأماكن المقدسة والمباركة مِن أرض هذا الوطن كان أهلوهم يقولون: نحن لم ندافع عن هذا البلد، لا من أجل مال ولا من أجل منصب زائل، إنما دافعنا عن سوريا لأنها تستحق الدفاع والفداء منا بالروح والمال والولد، هذه العقيدة التي يحملها أبناء الجمهورية العربية السورية في قلوبهم وفي صدورهم، ويضعونها وسام شرف على جباههم، فهل العيد الذي مر علينا مر هو أيضاً على أسر الشهداء والجرحى؟ وهل شعر المترفون والناعمون وأصحاب الأموال الطائلة بأولئك الذين يُعانون الأمرين مِن جراء ما أصابهم من الإرهاب والإجرام الغاشم، الذي ضَرب أمننا واستقرارنا؟.

تعالوا يا سوريون، تعالوا جميعاً لِنَضع أيدينا في أيدي البعض، لنتوجه جميعاً إلى بيوت الشهداء، لكي نمرغ جباهنا بتلك التراب وبتلك الأرض الطيبة، بذاك التراب وبتلك الأرض الطيبة، بأهلها ورجالها ونسائها، ولنتعلم منهم دروس التضحية والإباء.

لا ينبغي علينا أبداً ولا يجوز لنا أبداً أن نتقاعس أو أن نزهد في أمور العائلات المنكوبة، وعلى رأسهم عائلات الشهداء وأسر الجرحى، فحق علينا والله حق علينا والله أن نقف إلى جانبهم بكل ما نستطيع ولو بكلمة طيبة، فهم لا يُريدون مالاً ولا يريدون جاهاً ولا يريدون منصباً، إنما يريدون أخاً سورياً يقف إلى جانبهم بحق، يقدس آلامهم، يقدس أحزانهم، يشعر بالمرار والحزن الذي دخل على قلوبهم، فهل من تراحم، وهل من أخوة تجمعنا على الله أولاً، وتجمعنا ثانياً على حب الجمهورية العربية السورية؟.

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.

 

الخطـــــــــــــــبة الثانيــــــــــــــــ2ــــــــــة:

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. عباد الله اتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وأن الله غير غافل عنكم ولا ساه.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارحمنا فإنك بنا رحيم، ولا تعذبنا فإنك علينا قدير, اللهم ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك, ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً, اللهم إنا نسألك أن تنصر الجيش العربي السوري، وأن تكون لهم معيناً وناصراً في السهول والجبال والوديان, اللهم إنا نسألك أن تنصر المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله، وأن تسدد أهدافهم ورميهم يا رب العالمين، وأن تثبت الأرض تحت أقدامهم, اللهم إنا نسألك أن توفق القائد المؤمن بشار الأسد إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وأن تأخُذ بيده إلى ما تحبه وترضاه، وأن تجعله بِشارة خير ونصر للأمة العربية والإسلامية, )سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(.

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=336&id=3922