كلمة الأسبوع

شـعـبـان .. شـهـر يـغـفـل عـنـه الـنـاس

الشيخ محمد خير الطرشان


شـعـبـان .. شـهـر يـغـفـل عـنـه الـنـاس

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين :

أخرج الطبراني في الأوسط من حديث محمد بن مسلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها, لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يَشقى بعدها أبداً).

إنه شهر شعبان، شهر بين رجب ورمضان، يغفل الناس عن الصوم فيه؛ لأنه زمن غفلة، ولو علم الناس قدر العبادة في زمن الغفلة لما أعرضوا عنها، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه مسلم-: (سبق المفردون) ثم عَرَّفَهُم بقوله: (الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) قال المناوي رحمه الله: "المفردون: أي المنفردون المعتزلون عن الناس، من فرد إذا اعتزل وتخلى للعبادة، فكأنه أفرد نفسه بالتبتل إلى الله تعالى". فهؤلاء لما ذكروا الله وقد غفل غيرهم كان السبق لهم.

ففي هذا الشهر الذي قال عنه النبي: (ذلك شهر يغفل الناس عنه) ينبغي للمؤمنين أن يكونوا في شأن غير شأن الناس, الذين هم أهل الغفلة، كما قال الحسن البصري رحمه الله: "المؤمن في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذلها، ولا يُنافِس في عِزِّها، له شأن وللناس شأن". فعلى المؤمنين في وقت الغفلة أن يَزدادوا قُرباً وطاعة لله تعالى، وهذا مَا كان يَحثُّ عليه النبي.

فشهر شعبان شهر عظيم، عظمَّه رسول الله ، وحري بنا أن نعظمه وأن نكثر من العبادة والاستغفار.

فضل صوم شعبان:

ثبت في الصحيحين عن عائشة رضِيَ الله عَنْهَا أنها قالت: (لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَان، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّه) وفي رواية لهما عنها رضي الله عنها: (كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا). قال ابن المبارك رحمه الله: "جَائِزٌ في كَلَامِ الْعَرَبِ إذا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يُقَالَ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ".

وأخرج البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله يصوم حتى نقولَ لا يفطر، ويفطر حتى نقولَ لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان).

سبب صوم شعبان:

أخرج النسائي عن أسامة بنُ زيد رضي الله عنهما قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِم).

وسؤال أسامة رضي الله عنه يدل على مدى اهتمام الصحابة الكرام، وتمسكهم بسنة النبي .

ورفع الأعمال إلى رب العالمين في شعبان على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن تُرفع الأعمال إلى الله تعالى رفعاً عاماً كل يوم، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة  رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر, ثم يَعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم -وهو أعلم بهم-؟ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصلُّون وأتيناهم وهو يُصلُّون).

وأخرج مسلم عن أبى موسى الأشعري  رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه، يرفع الله عمل الليل قبل النهار, وعمل النهار قبل الليل، حِجابه النور لو كَشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

النوع الثاني: رفع الأعمال إلى الله تعالى يوم الاثنين والخميس، وهذا عرض خاص غير العرض العام كل يوم.

فقد أخرج أحمد في مسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس، فقيل له -أي سُئل عن ذلك- فقال: (إن الأعمال تُعرض كل اثنين وخميس، فيُغْفَر لكل مسلم -أو لكل مؤمن- إلا المتهاجرين، فيقول أَخِّرهما) وعند الترمذي بلفظ: (تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعْرَضَ عملي وأنا صائم)

النوع الثالث: هو رفع الأعمال إلى الله تعالى في شعبان، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والنسائي، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال عن شهر شعبان: (وهو شهر تُرفع الأعمال فيه إلى رب العالمين، فأحبُّ أن يُرْفَع عملي وأنا صائم).

ورفع الأعمال إلى الله تعالى مع كونه صائماً أدعى إلى القبول عند الله تعالى.


فضل ليلة النصف من شعبان:

وفي هذا الشهر ليلة عظيمة أيضاً، هي ليلة النصف من شعبان، عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم  شأنها، وهي من جملة مواسم النفحات الإلية، التي يَعرض الله تعالى فيها عفوَه ورحمته ورضوانه للمذنبين والخاطئين، فهي ليلة مباركة عظيمة، وهي ليلة الأنوار الربانية والتجليات الرحمانية، التي يَنزل الله تبارك وتعالى فيها إلى السماء الدنيا، من غروب الشمس يومها إلى طلوع فجر ليلتها، يَقدُمُ اللهُ فِيها على عباده، بالمغفرة للمستغفرين، وقبول التوبة للتائبين، والعفو عن المذنبين النادمين، فقد يُحَصِّلُ الْمُؤْمِنُ فِي هَذِهِ الليلة المباركة ما لا يُحصله في مئات الليالي سواها، ومن أجل العناية والفوز ببركات هذه الليلة العظيمة، أمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  المؤمنين بإحياءها، بالصلاة والدعاء والاستغفار، والإكثار من القرآن والتضرع، بكل صدق وإخلاص ويقين، وإن مخازن البر والرحمة والإحسان ومستودعات العفو والصفح والغفران، يُخْرِجُ اللهُ تَعَالَى مَا فِيْهَا لِيَعرضه على عباده، فَيَعْرِضُ اللهُ عز وجل نفحاتِهِ المملوءة بالرحمة والقبول على عباده المخلصين التائبين، فينال هذه الأنوار والنفحات الربانية كل مَن يَتَعرَّفُ لها في هذه الليلة، فأما المؤمن الصادق فيترقَّبُ هذه الأوقات، ويَعبد الله فيها بزيادة الاستعداد لها، بوفرة المبرات والصدقات، والإكثار من ذكر الله عز وجل والطاعات، فيَغسل نفسه وروحه وقلبه من كل ما يدنسها، حتى يُصبح القلبُ صافياً، فإذا لاحت أنوار القرب الرباني في هذه الليلة المباركة، هبطت إلى هذا القلب المحب العاشق لربه، فيسعد بها سعادة الدارين، ويمتلئ قلبه بأنوار اليقين والقرب من رب العالمين، وعندها يكون من عباد الله الصالحين، فقد قال الله تعالى في شأن هذه الليلة المباركة: )فيها يُفرقُ كُلُّ أَمرٍ حَكِيم( فقال بعض المفسرين: إنها ليلة النصف من شعبان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (إذا كانت ليلة النصف من شعبان ، فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى يَنْزِلُ فِيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه، ألا من مبتلىً فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يَطلع الفجر) وتقول سيدتنا عائشة رضي الله تعالى عنها: (فقدت النبي صلى الله عليه وسلم  ، فخرجت فإذا هو بالبقيع، رافعاً رأسه إلى السماء، فقال: أكنت تخافين أن يَحِيْفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُوْلُه؟ فقالت: يا رسول الله، ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: (إن الله تبارك وتعالى يَنزل ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن) وقال عطاء رضي الله عنه "إذا كانت ليلة النصف من شعبان دُفِعَ إلى ملك الموت صَحيفةً، فيقال له: اقبض من في هذه الصحيفة، فإن العبد ليغرس الغراس وينكح الأزواج ويبني البنيان، وإن اسمه قد نُسخ في الموتى، ما يَنتظر به مَلك الموت إلا أن يُؤْمَرَ بِهِ فَيَقْبِضَه، وما مِن لَيلة بعد ليلة القدر أفضلُ من ليلة النصف من شعبان، يَنْزِلُ اللهُ تعالى فيها إلى السماء الدنيا، نزول رحمة ومغفرة ورضوان، فيَغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم أو قاتل نفس.

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يَقوم هذه الليلة فيطيل فيها الصلاة، وَيُكْثِرَ فِيْهَا مِنْ الذِّكْرِ والدعاء، مما لا يفعله في غيرها من الليالي، وتروي لنا عائشة رضي الله تعالى عنها فتقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم  من الليل فصلى فأطال السجود، حتى ظننت أنه قُبض، فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحرك، فرجعت فسمعته يقول في سجوده: (أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك لا أحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) فلما رفع رأسه من سجوده وفرغَ من صلاته قال: يا عائشة: أتدرين أي ليلة هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (هذه ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويُؤخر أهل الحقد كما هم) أي يتركهم بلا رحمة ولا مغفرة. ويقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (أتاني جبريل عليه السلام ، فقال: هذه ليلة النصف من شعبان، ولله فيها عتقاء من النار، بعدد شعور غنم بني كلب، ولا ينظرُ الله فيها إلى مشرك، ولا على مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى عاق لوالديه، ولا إلى مدمن خمر).

فينبغي للمؤمن أن يَغتنم هذه الليلة المباركة، وأن يتفرغ فيها لذكر الله تعالى، ودعائه بمغفرة الذنوب وستر العيوب، وتفريج الكروب وتفريح القلوب، وأن يُقدم على ذلك كله التوبة، فإن الله تَعالى يَتوب فيها على من يتوب. ويتعين على المسلم في هذه الليلة، أن يَتَجنب الذنوب التي تمنع المغفرة وقبول الدعاء، وقد ورد عن سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، أنه كتب إلى عامله بالبصرة: "عليك بأربع ليال من السنة، فإن الله تعالى يُفرغ فيهن الرحمة إفراغاً: أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة الفطر وليلة الأضحى". وقال كعب رضي الله عنه "إن الله تعالى يَبعث ليلةَ النصف من شعبان جبريلَ عليه السلام إلى الجنة، فيأمرها أن تتزين، ويقول لها: إن الله تعالى قد أعتق في ليلتك هذه عدد نجوم الليل وعدد ورق الشجر وزنة الجبال وعدد الرمل.

 

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=33&id=3177