كلمة الأسبوع

اِعــرفْ حــقَّ رجــب

الشيخ بلال سلمان


اِعــرفْ حــقَّ رجــب

 

اِعرِفْ حَقَّ رَجَب

قَالَ اللهُ تَعَالى: )إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرَاً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم( [سورة التوبة: (36)].

وقال رسول الله صلوات الله عليه وسلامه: ((إِنَّ الزَّمَانَ قَد استَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرض، السَّنَةُ اثنَا عَشَرَ شَهرَاً، مِنهَا أَربَعَةٌ حُرُم، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَات: ذُو القَعدَة وَذُو الحِجَّة وَالْمُحَرَّم، وَرَجَبُ مُضَر الذِي بَينَ جُمَادَى وَشَعبَان) [أخرجه البخاري].

لِلأَشهُرِ الحُرُمِ الأَربَعَةِ فَضَائِلُ كَثِيرَة، وَقَد اختُلِفَ أَيُّ الأَشهُرِ الحُرُمِ أَفضَل، فَقِيل: رَجَب، وَقِيل: الْمُحَرَّم، وَقِيل: ذُو الحِجَّة.

وَسُمِّيَت هَذِهِ الأَشهُر بِالحُرُمِ لِعِظَمِ حُرمَتِهَا وَحُرمَةِ الذَّنبِ وَالقِتَالِ فِيهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مَعرُوفَاً فِي الجَاهِلِيَّة. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنه: "اختَصَّ اللهُ أَربَعَةَ أَشهُرٍ جَعَلَهُنَّ حُرُمَاً، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنّ، وَجَعَلَ الذَّنبَ فِيهِنَّ أَعظَم، وَجَعَلَ العَمَلَ الصَّالِحَ وَالأَجرَ فِيهِنَّ أَعظَم".

وَمِنَ الأَشهُرِ الحُرُمِ شَهرُ رَجَب الذِي نَحنُ فِيهِ الآن، وَهَذِهِ بَعضُ فَضَائِلِه:

اسمه: سُمِّيَ رَجَبُ رَجَبَاً لأنَّهُ كَانَ يُرَجَّبُ، أي: يُعَظَّم، كذا قال الأصمعي والمفضل والفراء. وقيل: لأنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَرَجَّبُ لِلتَّسبِيحِ وَالتَّحمِيدِ فِيه. وَذَكَرَ بَعضُهُم أَنَّ لِرَجَبَ أَربَعَةَ عَشَرَ اسمَاً: شَهرُ الله، رَجَبُ مُضَر، مُنْصِلُ الأَسِنَّة، الأَصَم، الأَصَب، مُنَفِّس، مُطَهِّر، مَعَلَّى، مُقيم، هَرَم، مُقَشقِش، مُبَرِّئ، فَرد.

أحكامه: يَتَعَلَّقُ بِشَهرِ رَجَبَ أَحكَامٌ كَثِيرَة، مِنهَا مَا كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ وَاختَلَفَ العُلَمَاءُ فِي استِمرَارِهِ فِي الإِسلَام: كَالقِتَالِ وَالذَّبَائِحِ وَالصِّيَام .

وَأَمَّا عَن فَضلِ الصِّيَامِ فِي رَجَبَ فَلَم يَصِحَّ بِخُصُوصِهِ شَيءٌ لا عَن رَسُولِ اللهِ صلوات الله عليه وسلامه وَلا عَن الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عنهم، وَإِنَّمَا يُندَبُ فِيهِ مُطلَقُ الصِّيَامِ، لِقَولِ النَّبِيِّ u: ((مَن صَامَ يَومَاً فِي سَبِيلِ اللهِ بَعَّدَهُ اللهُ عَن النَّارِ سَبعِينَ خَرِيفَاً)) [أخرجه البخاري ومسلم] وَسُئِلَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه: هَل كَانَ رَسُولُ اللهِ صلوات الله عليه وسلامه يَصُومُ فِي رَجَب؟ قَال: نَعَم. وَقَالَ الثَّورِيّ: (الأَشهُرُ الحُرُمُ أَحَبُّ إِليَّ أَن أَصُومَ فِيهَا).

وَوَرَدَ كَرَاهِيَةُ صِيَامِ رَجَبَ كَامِلَاً عَن ابنِ عَبَّاسٍ وَابنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَسَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ وَيَحيَى بنِ سَعِيدٍ وَالإِمَامِ أَحمَد وَالإِمَامِ الشَّافِعِي رضي الله تعالى عنهم، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا: (مَا رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلوات الله عليه وسلامه استَكمَلَ شَهرَاً قَطُّ إِلا رَمَضَان) [أخرجه مسلم].

دعاؤه: كَانَ النَّبِيُّ صلوات الله عليه وسلامه إِذَا دَخَلَ شَهرُ رَجَبَ قَال: ((اللهُمَّ بَارِك لَنَا فِي رَجَبَ وَشَعبَان، وَبَلِّغنَا رَمَضَان)) [أخرجه أحمد] وَكَانَ أَهلُ الجَاهِلِيَّةِ يَتَحَرَّونَ الدُّعَاءَ فِي رَجَبَ عَلَى الظَّالِم، وَكَانَ يُستَجَابُ لَهُم، وَلَهُم فِي ذَلِكَ أَخبَارٌ مَشهُورَة.

وَقَد اشتُهِرَ عَلَى أَلسِنَةِ الصَّالِحِينَ استِحبَابُ كَثرَةِ الاستِغفَارِ فِي شَهرِ رَجَب.

فضائله: شَهرُ رَجَب مِفتَاحُ أَشهُرِ الخَيرِ وَالبَرَكَة، قَالَ أَبُو بَكرٍ البَلخِيّ: (شَهرُ رَجَبَ شَهرُ الزَّرع، وَشَهرُ شَعبَانَ شَهرُ السَّقيِ لِلزَّرع، وَشَهرُ رَمَضَانَ شَهرُ حَصَادِ الزَّرع). وَقِيلَ: (مَثَلُ شَهرِ رَجَب مَثَلُ الرِّيح، وَمَثَلُ شَهرِ شَعبَانَ مَثَلُ الغَيم، وَمَثَلُ شَهرِ رَمَضَانَ مَثَلُ الْمَطَر). وَقَالَ أَحَدُ الصَّالِحِين: (بَلَغَنِي أَنَّ للهِ تَعَالَى عُتَقَاءُ فِي شَهرِ رَجَب). وَقَالَ بَعضُهُم: (السَّنَةُ مِثلُ الشَّجَرَة، وَشَهرُ رَجَب أَيَامُ تَورِيقِهَا، وَشَهرُ شَعبَان أَيَّامُ تَفرِيعِهَا، وَشَهرُ رَمَضَانَ أَيَّامُ قَطفِهَا، وَالْمُؤمِنُونَ قطافُهَا).

الخلاصة:

أولاً: ما يثبت في شهر رجب:

أ- هو من الأشهر الحرم التي يجب على المسلم أن يتجنب المعصية فيها، لقول الله تعالى: )إن عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم( [سورة التوبة: (36)] قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير الآية: )فلا تظلموا فيهن أنفسكم( أي في هذه الأشهر المحرمة، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، وكذلك الشهر الحرام تَغلظ
فيه الآثام. وقال قتادة: (إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يُعظم من أمره ما يشاء). فشهر رجب كالمقدمة لرمضان، وهو شهرُ تَخليةٍ وبُعدٍ عن المعاصي والآثام، وكل إنسان له مَعصية في جانب ما، فَعليه أن يُجاهد نفسه لاستئصالها، فإذا جاء شهر شعبان فَهو شَهر تَحليةٍ وَعِبَادَة.

ب- رجب شهرٌ تُشرع فيه العبادة، لأنه من الحُرم دون تحديد شرعي لنوع معين، فقد أخرج النسائي، عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، لم أرَكَ تصوم شهرًا من الشهور ما تصومُ من شعبان؟ قال: ((ذاك شهر يَغْفُلُ الناسُ عنه بين رجب ورمضان)) فدل أن الناس تَعبد ربها وتجتهد في العبادة في رمضان وفي رجب. وقد جاء في صحيح مسلم، عن عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ صَوْمِ رَجَب، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ فِى رَجَبٍ، فَقَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنه يَقُولُ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلوات الله عليه وسلامه يصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُوم) فهذا نص أن شهر رجب كغيره في أداء العبادات كالصوم، فإن فَعلت فيه طاعة فلا تَنسبها للشرع، ولك أن تفعلها تقرباً إلى الله تعالى في شهر حرام.

ثانيًا: ما لا يصح في شهر رجب:

ألف الحافظ ابن حجر العسقلاني [ت:852هـ] رحمه الله تعالى كتابًا سماه (تبيين العَجب بما ورد في فضل رجب) قال فيه: (لم يَرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه - حديث صحيح يصلح للحجة)، ثم أورد بعض الأحاديث التي لا تصح، فمنها:

-(إن في الجنة نهرًا يقال له رجب: ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل: من صام يوم من رجب سقاه الله من ذلك النهر) [حديث ضعيف].

-(خيرة الله من الشهور شهر رجب، وهو شهر الله، من عظم شهر رجب فقد عظم أمر الله أدخله جنات النعيم، وأوجب له رضوانه الأكبر، وشعبان شهري، فمن عظم شهر شعبان فقد عظم أمري، ومن عظم أمري كنت له فرطاً وذخراً يوم القيامة، وشهر رمضان شهر أمتي، فمن عظم شهر رمضان، وعظم حرمته، ولم ينتهكه، وصام نهاره، وقام ليله، وحفظ جوارحه، خرج من رمضان وليس عليه ذنب يطالبه الله تعالى به) [حديث موضوع].

-(من صلى المغرب من أول ليلة من رجب، ثم صلى بعدها عشرين ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد مرة، ويُسلم فيهن عشر تسليمات، أَتدرون ما ثوابه؟ فإن الروح الأمين جبريل علمني ذلك، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: حَفظه الله في نفسه وأهله وماله وولده، وأُجير من عذاب القبر، وجاز على الصراط كالبرق بغير حساب ولا عذاب) [حديث موضوع].

-صلاة الرغائب في شهر رجب: موضوعة، وأورد أحاديث ضعيفة، وضعيفة جدًا، وموضوعة، فهل يُعمل بالضعيف؟.

قال ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه المذكور: (اشتُهر أن أهل العلم يَتسامحون في إيراد الأحاديث في الفضائل، وإن كان فيها ضعف، ما لم تَكن موضوعة، وينبغي مع ذلك اشتراط أن يَعتقد العامل كون ذلك الحديث ضعيفاً، وأن لا يشهر بذلك، لئلا يراه بعض الجهال فيَظن أنه سنة صحيحة) يقصد رحمه الله تعالى أن الناس من العامة لا تميز بين الصحيح والضعيف، ونحن تَعبدنا الله تعالى بالثابت عن النبي الكريم صلوات الله عليه وسلامه، أما الضعيف فجوز الأئمة العمل به احتياطًا، وعليه فينبغي تَنبيه السامع أن الحديث ضَعيف، فلعله لا يُريد الاحتياط، ويَنبغي لمن عَمِلَ بالضَّعيف أن لا يشهره ويظهره، حتى لا يظن الناس أن الحديث صحيح.

أخيراً: جَدِيرٌ بِمَن سَوَّدَ صَحِيفَتَهُ بِالذُّنُوبِ أَن يُبَيِّضَهَا بِالتَّوبَةِ فِي شَهرِ رَجَب. وَرَحِمَ اللهُ مَن قَال:


فنسأل الله تعالى أن يُعيننا في هذا الشهر على أنفسنا، فنجاهدها حق المجاهدة، وأن يُكرمنا بتعظيم شهره الحرام، وأن يَجعلنا من المقبولين عنده.

التَّقوَى ثَمَرَةُ رَمَضَان، وَالجُهدُ وَالعَمَلُ مِن أَجلِهَا يَبدَأُ مِن رَجَبَ الحَرَام

 

 

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=33&id=3139