كلمة الأسبوع

عـــيــش الـــسعـــداء

أ. محمد خير الطرشان


عـــيــش الـــسعـــداء

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فقد روى الإمام الترمذي وغيره من أصحاب السنن، أن سيدنا رسول الله كان يدعو فيقول: (اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، ومُرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء).

هذا دعاء سيدنا رسول الله ، وحريٌّ بنا أن نتأثر بدعوته ، وأن نجتهد في تقليده في كل وقت وآن. لكننا نقف اليوم عند جملة ممَّا دعا به رسول الله وسأل ربه، ألا وهي قوله: (وأسألك عيش السعداء) فما هو عيش السعداء أيها الإخوة؟ هل عيش السعداء في مالٍ وفير وسلطان كبير؟ هل عيش السعداء في لهوٍ ولعب؟ هل عيش السعداء في تحقيق الأماني والشهوات والآمال التي تتطلع إليها النفوس؟ أو عيش السعداء هو مرضاة الله سبحانه وتعالى وطاعته، والعيش في حياة إيمانية كما يرضى الله ورسوله؟ وكما قال ربنا وتعالى في سورة النحل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]

الحياة الطيبة -أيها الإخوة- هي حياة السعادة، وهي عيش السعداء. الحياة الطيبة هي الحياة الإيمانية التي يَعيشها المؤمن في طاعة الله، ويحياها وهو مُتبعٌ لأوامر الله. الحياة الطيبة هي عيش السعداء الذي يتعرفون إلى الله في الرخاء فيعرفهم في الشدة. الحياة الطيبة هي ركعات يرَكعها المؤمن في جوف الليل، ودعوات يدعو بها في الظلام، لينال بها رضا رب الأنام. الحياة الطيبة عاشها كثير من أصحاب النبي ففازوا في حياتهم، فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وكانوا يتعرضون لنفحات الله في كل الأوقات من الليل ومن النهار، في كل أنواع العبادة سواء منها الصيام أو الصلاة أو الذكر أو الصدقة أو الانفاق، أو الجهاد في سبيل الله، أو السعي في الإصلاح بين الناس، وذلك كله يَنطوي تحت شعار الحياة السعيدة.

السعادة لا يُمكن أن يحياها الإنسان المؤمن مع وفرة المال أو كثرته، إن اقتصرت الحياة على سعيٍ مادي من غير سعي إلى رضا الله سبحانه، أما إذا اجتمعا معاً فنِعْمَ المالُ الصالحُ للعبد الصالح. فقد جاء رجل إلى النبي فأعطاه من المال الوفير تَألُفاً لقلبه وتشجيعاً له وتثبيتاً على الدين، فقال له: يا رسول الله، ما لهذا اتبعتك، أي: ما قصدت من الاتباع لدينك وسنتك الحصول على المال الوفير. فقال له النبي: (نعم المال الصالح للعبد الصالح) فالمال الوفير إذا استخدمه المؤمن فيما يُرضي الله سبحانه وتعالى وعرف حَقَّ الله فيه، وآتى المال على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ومهاجراً وعابر سبيل، فإنه يحيا حياة طيبة ويَعيشُ عيش السعداء.

عيش السعداء -أيها الإخوة- ليس عن كثرة الجاه والعرض، ولا عن كثرة الدنيا والأملاك، إنما عيش السعداء يكون في طاعة يَعيشها المؤمن ويَحياها بَين يدي ربه سبحانه وتعالى، فقد قال الله تعالى عن العباد الصالحين أصحاب الحياة الطيبة والعيش السعيد: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾  [السجدة:١٥] فهؤلاء نموذج ممن ذكر الله في القرآن أنَّ حياتهم حياةُ سعادة، هؤلاء إذا نام الناس استيقظوا، وإذا استيقظ الناس عملوا، أولئك قوم يَعيشون مع الله ولله وفي الله.

سُئل أحد الصالحين: ما بال المتهجدين حسان الوجوه؟ ما بال المتهجدين الذين يُصلون بالليل والناس نيام صباحُ الوجوه؟ فقال: "أولئك قومٌ خَلَوا بالحبيب فألبسهم من نوره" يكسوهم الله تعالى من أنوار رَحماته، يُنزل عليهم هذه السكينة وهذه الطمأنينة، فلا تَراهم في دنياهم يَشكون مَللاً أو قَلقاً أو اضطراباً، كما نَسمع بين الحين والآخر مِن شَباب هذه الأمة وبَنَاتها ورجالها ونسائها أن الملل قد أصابهم، وأن اليأس قد تَغَشَّاهم، وأن الضجر قد سيطر عليهم، وأن الكآبة قد ملأت حياتهم، وأنهم ضاقوا بهذه الدنيا وما فيها. لماذا أيها الإخوة؟ أهي حياة الغرب انتقلت إلينا؟ أهي عَدوَى الْمَدَنِيَّة الفاجرة والحضارة المزيفة انتقلت إلى صفوف الأمة الاسلامية، فَبِتنَا نَسمع بهذا القلق والاضطراب والحيرة، ونسمع عن البعض الذين يبحثون عن المشعوذين والمزورين لِيُخرجونهم من هذا الضيق والقلق؟! أبداً أيها الإخوة، إنما سبب ذلك الغفلة عن الله والابتعاد عن ذكر الله، كما يقول ربنا تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ [طه: ١٢٤] فمعيشة الضَّنك هي معيشة الشدة والضيق، المعيشة التي يَشعر الإنسان وكأنَّ على صدره صخرة عظيمة تمنعه من الاستمتاع بلذات الدنيا ومتعها، هذه المعيشة الضنك إنما سببها الإعراض عن الله والغفلة عن ذكره، والسعي واللَّهاثُ وراء الدنيا والمادة والزينة والزخرف ونحو ذلك، مما لا ينفع في الدنيا والآخرة.

 أهي المادية الغربية قد أصابتنا بعدواها؟ لقد أثبتت الإحصاءات أن نسبة الانتحار التي تعاني منها أمريكا هي أعلى نسبة في العالم. لماذا ينتحر الناس في أمريكا؟ ألقلة الخمر؟ أم لقلة النساء؟ أم لقلة المال؟ وهي أكبر دولة من حيث الناحية الاقتصادية، ومن حيث التفلتُ من كل القيم. لماذا يعيش أهلها حالةَ شدةٍ وضَنك؟ هذا ما تَنقله الإحصاءات، ليس تجنّياً على الحياة الغربية، فالحياة الغربية بشقيها الأمريكية والأوربية حياة مبهرة من حيث الظاهر، أضواؤها تلوح لنا في الآفاق، فيحلم كثير من الناس بالحياة فيها، لكن مَن عاش مع أهلها ومَن عاشرهم ومَن لازمهم أدرك أنهم يَعيشون الكآبة، وأن قلوبهم فَارغة، وأنهم لا يَحييون لهدف أو لحياة سامية، كما يَحياها الإنسان المؤمن، الذي إذا ضاق صدره ذكر الله ففاضت عيناه، فارتاح صدره واطمأنَّ قلبه، ألم يكن سيدنا رسول الله إذا حزبه أمرٌ فزغ إلى الصلاة؟ أي: إذا ضاق به الأمر واشتد عليه الحال، فإنه يبادر إلى الصلاة، وكان يقول: (يا بلال أرحنا بها) لماذا؟ لأن الصلاة حقيقةً هي عروج الروح إلى الملكوت الأعلى، ولربما نشكو من صلاتنا أننا لا نعرف فيها الخشوع، ولا نعرف فيها معنى عروج الروح، ولا نَتذوق فيها صلة مناجاة الله تعالى، ونقول لربنا: )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين( لكننا نستعين بغيره من الشرق والغرب، ولا نُجيد الاستعانة بالله سبحانه وتعالى. وإذا قلنا لربنا: )إِيَّاكَ نَعْبُد( فكثيرٌ منا عِبَادته حَركات ظاهرة بغير حضور قلبٍ ولا خشوع، ولهذا ورد في الآثار الإلهية: (إني وابن آدم في خطرٍ عظيم، أخلقُ ويُعْبد غيري، وأرزق ويُشْكر سواي). يا لَـهُ من أمر خطير، الله تعالى خالقنا وبارئنا وموجدنا، ونحن ندين بالعبودية لسواه، ونركع ونسجد لغيره، وإن كان ليس ركوعاً على وجه الحقيقة إنما من باب الاستعباد، فكثيرٌ من الخلق استعبد الخلق وأذلَّهُ في دنياه، وهو في الآخرة ذليل، وإن كنا أيضاً نشكر غير الرازق الحقيقي، فالرازق على وجه الحقيقة إنما هو الله، لكننا نشكر المخلوقين الذين نُصيبُ منهم رزقاً أو منفعة.

أيها الإخوة: إذن عيش السعادة والطمأنينة، وحياة الإيمان الحقيقية إنما تكون بالفرار إلى الله، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّـهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: ٥٠] ليس أمامنا ملجأٌ ومهربٌ وملاذٌ إلا إلى الله، وليس أمامنا من باب نطرقه إلا باب الله، كما يقول الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: في القلب شعثٌ -تفرقٌ وشتات- لا يلمه -لا يجمعه- إلا الإقبال على الله. في القلب شعثٌ، وهذه حالة الشكوى التي يشتكي منها كثيرٌ من الناس، يقول: ما هذه الحال؟ ما هذا الضيق؟ ما هذه الحيرة التي نعيش بها؟ إنه الشتات، شتات القلب بسبب إعراضه عن ذكر الله سبحانه، نعم "في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يُزيلها إلا الأنس بالله في خلوته، وفيه حزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وفيه قلق لا يُسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى لقائه).

)فَفِرُّوا إِلَى اللَّـه( والفرار إلى الله لا يَعني الهجرة وترك الديار، بقدر ما هو ترك وإعراض عن الدنيا، وقذفها وراء الظهر، والإقبال على الله، كما أقبل النبي  وكان لنا نموذجاً عملياً في حياته، وكان النبي يُعلم هذا الأمر أصحابه. فيروي هذا لنا سيدنا عبد الله بن عمر الصحابي الجليل الزاهد المتعبد فيقول: كان النبي إذا فرغ من صلاته سأل أصحابه، أيكم رأى رُؤيا؟ فكانوا يَقصُّون رُؤاهم على رسول الله ، وكنت أتمنى أن أرى رُؤيا لأقصها على رسول الله.

وذات يومٍ استيقظت على رؤيا رأيت فيها كأني مُقبلٌ على النار، ورأيت أهلها فيها، وعرفت منهم أشخاصاً، فقلت: أعوذ بالله من النار، فقال لي ملك من الملائكة: لم تُرَعْ، لم تُرَعْ، أي: لا تخف، فإنك في أمان. فاستيقظت وقصصت الرؤيا على حفصة ، فقصَّت حفصة على سيدنا رسول الله رؤيا أخيها، فقال: (نِعْمَ الرجل عبدَ الله، لو كان يقوم من الليل) نعم الرجل عبدُ الله، أي: ابن عمر، لو كان يقوم من الليل. يقول سيدنا نافع مولى سيدنا عبد الله بن عمر وخادمه: "فما ترك عبد الله بن عمر قيام الليل بعد ذلك".

أيها الإخوة: نحن في هذا الزمن الصعب الشديد الذي حَدثت فيه تغيرات كبيرة على مستوى العالم العربي والإسلامي، ونمر بأزمات خطيرة وشدائد مستطيرة، ألسنا بحاجة أن نفزع إلى الله؟ ألسنا بحاجة أن نُفَعِّل فينا عبادة قيام الليل؟ إنه حال أهل الله، حال المتهجدين بالأسحار، حال القائمين في الليل، الخاشعين البكَّائين، الذي يضرعون إلى الله في الليل، ويناجونه في السجود. ألسنا نشتهي أن نتشبه بالملائكة؟ عندما يُريد أحدنا أن يُثني على أحدٍ فيقول: والله فلان كأنه ملائكة. لماذا؟ لأن الله تعالى وصف الملائكة فقال: ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦]

فلماذا نُصِرُّ على المعصية وإن كانت صغيرة؟ فالإصرار على الصغيرة يُؤدي للوقوع في الكبيرة، ولقد تهاون قومٌ في الصغائر فأدت بهم إلى الوقوع في الكبائر. لقد تهاون سيدنا آدم  أن يأكل من الشجرة، فما كانت النتيجة؟ أُهبط إلى الأرض لأنه عصى الله بأكله من الشجرة التي نُهي عنها. ألم يُلعن إبليس ويُطرد من رحمة الله لأنه أبى أن يسجد سجدة واحدة؟ طُرد من رحمة الله إلى قيام الساعة. ألم يُعاقب اليهود فيمسخون قردةً وخنازير لأنهم عصوا الله تعالى في يوم السبت فاصطادوا الحيتان؟ إنها صغائر ولكنهم أصروا عليها وتهاونوا فيها فتحولت إلى كبائر. أما العبد المؤمن الصالح إذا وقعت منه زلة فإنه يُبادر إلى التوبة الصادقة، ويُبادر إلى الإقبال على الله.

من الصحابة رجلٌ يقال له ماعز بن أنس ، هذا الرجل صحابيٌ جليلٌ صالحٌ عابد، أغرته امرأةٌ جاريةٌ فوقع بها بعد أن وسوس له الشيطان، ولما نزع الشيطان عنه وسوسته انتبه إلى ما وقع فيه، فوجد أن الدينا كلها قد اسودت في وجهه، وعاد إلى الله تائباً منيباً، وجاء إلى النبي وقال: يا رسول الله، إن ماعزاً قد زنى فطهره، فأنكر النبي ذلك وهو يعرف ماعزاً من المقربين الطاهرين، فأعرض عنه النبي  ، فجاءه من جهة أخرى، ثم جاءه قبل وجهه، فقال له النبي : (أتعرف ما الزنا؟) قال: نعم يا رسول الله، أن يأتي الرجلُ المرأة حراماً كما يأتي الرجل أهله حلالاً. قال: أتريد أن أُقيم عليك الحد؟ قال: طهرني يا رسول الله. فأمر به النبي أن يُرْجم، فَرُجم حتى الموت. ومات ورُفعت روحه تائبةً نقيةً إلى الله سبحانه، فمرَّ رجلان ورأيا ذلك المشهد وخاضا في ماعز وتكلَّما في عرضه، وسمعهما النبي ، وبينما هو يمشي في الطريق رأى جِيفَةَ حمار، فقال لهما: فلان وفلان، فجاءا، فقال لهما: كُلَا من هذا اللحم. فقالا: لم يا رسول الله؟ فقال: ما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشدُّ من أكل الميتة، لقد تاب توبة لو قُسمت بين أمة لَوسعتهم، والذي نَفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة يَنغمس فيها.  

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يُكرمنا جميعاً فتكونَ حياتنا حياة السعداء، ومصيرنا ومنزلتنا منزلة الشهداء، وأن يُكرمنا الله تعالى بِرِفقة الأنبياء والنصر على الأعداء، وأن يُرضينا بالقضاء، وأن يصبرنا على ما أصابنا، إنه على كل شيءٍ قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.

 

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=33&id=2558