الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويدفع نقمه ويكافئ مزيده, والصلاة والسلام على سيد العابدين والربانيين سيدنا محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين, وبعد؛ يتساءل المرءُ عن حقيقة السعادة وجوهرها, وهل هي في تحقيق مُبتغى النفس أم أنها كمَنَت في شأنٍ آخر؟ وبالتأمُّل والتدبُّر يدرك العاقلُ ويعلمُ أنَّ السعادةَ سعادتان آنيةٌ ودائمةٌ، وإنْ شئت فقُلْ مجازيةٌ وحقيقيةٌ، وإن شئت فقل وهمية وواقعية؛ فالأولى؛ ما تتصل بالشهوات الحسية والملذات النفسية تلك التي تنتهي بحدِّها المظروف لها من لذة الطعام والشراب والشهوة. ولا سيما حينما يستجديها المرءُ أو يطلبُها تحقيقاً لمطلبِ الإلحاح وشِدة الإصرار فيعقبُها فتورٌ في الهمة، وكَللٌ في الذهن وغيابٌ للفطنة، ثم يتضاعف ذلك بظلماتٍ بعضُها فوق بعض إذا كانت مستجلَبةً بالحرام والجرأة على شريعة ربِّ الأنام عز وجل. ويقال لصاحب هذا الحال: تُرى أيُّ نوع من السعادةِ مع نتائج الخمول والهويِّ في سحيق غياهب الخزي بصحبة نفس أمّارةٍ بالسوء. الثانية؛ هي التي ترتبط بأعمال القلوبِ المتصلة بعلّامِ الغيوب في حبل الوصال الدائم بذي الجلال والجمال، تأمّل معي لَفْتَةَ الحبيب الأكرم صلى الله عليه وسلم للصائم وما أخفي له من قرة أعين جزاءً ووفاءً مع جزيل العطاء للاكتفاء والإرضاء في أواخر الحديث القدسي الذي مطلعُه: (كلُّ عمل ابنِ آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أَجزي به...للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم: (...للصائم فرحتان فرحةٌ عند فطرِه وفرحةٌ عند لقاء ربه...)، فبتأمُّل يسير تجدُ أنَّ السيِّد الأعظم صلى الله عليه وسلم ذكر الفرحةَ في طَرَفَيْ حياةِ الصائم العاجلة والآجلة ما يشير إلى استمرار الفرح بالله إلى لقائه, وتلك هي السعادة الحقيقية والجوهرية لأنها _عادةً_ على طرفي زمانِ العبد ومكانِه فلا يمكنُ لمن كتب الله له السعادة الآجلة أنْ يشقى أو يحزن حُزْنَ أهلِ الدنيا. أما العاجلة؛ ففي قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أفطر فرح عند فطره...) وبما أنَّ الفرحَ عبارة عن عطاء إلهي وتجلٍّ صمداني فهو أفراحٌ بإمدادات نورانية تُسعدُ صاحبَها بطُمأنينة القلب وخضوع الجوارح، وبالسكينة ويقظة اللبِّ بالفطانة وهو حال المؤمن كامل الإيمان الذي جمَّله الله بالكَياسة والفطانة لما ورد: (المؤمن كيس فطن)، وهنا تتوسع في حقِّه دائرة الأنوار العاجلة، فنقول: 1_ تُرى هل هي في فرحة الإذن في الطعام رغبةً بتحقيق الأمر الإلهي القائل: (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ). 2_ أم هي فرحة المؤمن بتمام الأداء لعبادته يَرى الفضلَ الإلهي قد غمَرَه بعونه وقوته نهارَه كله رغم حرِّه وطولِه. 3_ أم هي روعة الأُنس بأجواءٍ ملائكيَّة تنفث مسكَها وعبقَها أنفاسُ الصائمين المحبوبة (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك). 4_ أم هي نشوة السعادة بالعيش في جنة المعارف التي يستشعِرُها الصائم بعنصر الشفافية التي يغدو بالصوم متمتعاً بها. 5_ أم هي جماليات يُسر الطاعة من غير شعور بالعَناء والمكابدة وذلك بسبب كفِّ الشياطين وإبعادهم كي لا يشوشوا على الصائمين. 6_ أم هي الشعور بنشوة الانتصار على النفس الأمّارة التي ألِفَتِ الشهوات واستهوت الملذات خواليَ الزمن فأعانها المولى على الطاعة حتى غدت مِطواعة. 7_ أم هي جلالُ القرب الإلهي المشوب بالجمال المخيِّم على العابدين. انظر أخي الصائم وتأمَّل تجد أنَّ كل واحدةٍ ألحن بالحجَّة من أختها. وأما الآجلة؛ أقول: فبالعجز عن درك السر الموصل إلى مراد معطيها بقوله: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) نستخلص ما يفتح الله على أهلها، فنقول: 1_فلعلها الفوزُ بالنجاة يوم المعاد بالعرضة يوم العرض على ربِّ العباد في يسر الحساب والنجاة من يوم الفزع الأكبر والعطش الأخطر والورود على حوض صاحب الخيرات. 2_ أم هي نَيْلِ الدرجات على معارج الارتقاء في رعاية خير الأنبياء. 3_ أم هي دخول الجنة بمعيَّة سيد السادات عليه أفضل الصلوات والتسليمات. 4_ أم هي العيش في علياء الأنس في الفردوس مع صاحبه صلى الله عليه وسلم (َوحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً). 5_ أم هي امتياز الشفاعات التي يحظى بها صاحب الخصوصية من رب البرية. 6_ أم هي رؤية رب السماوات الذي قال في ذلك الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي)، وهو مستغنٍ عنه، فهل هي إلا قربُ الصائم الذي رفع قدره وكأني بالمكانة العلوية تهنئه فتقول: إلا أنت أيها الصائم فإنك موهوبٌ لربك قريب منه قرب المكانة لتتمتع برؤيته عند لقائه فهو المفهوم الأرجح لقوله صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحةٌ عند لقاء ربه) فو ربك إنَّا لها بالأشواق لأزيد وإنا لمنتظرون على متن السعادة العاجلة لتحقيق الآجلة ومسك الختام بدليل وحي القرآن: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى). |
||||||||
|