كلمة الأسبوع

ليلة النصف ...تقسيم الأرزاق


ليلة النصف ...تقسيم الأرزاق

تُطِلُّ عَلَينَا بَعدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ لَيلَةَ النِّصفِ مِن شَعبَان ، وَهِيَ مِن جُملَةِ مَوَاسِمِ الخَيرَاتِ وَالطَّاعَات ، فَفِيهَا النَّفَحَاتُ الإِلَهِيَّةُ وَالأُعطِيَاتُ القُدسِيَّة ، وَفِيهَا يَعرِضُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَفوَهُ وَرَحمَتَهُ وَرِضوَانَهُ لِعِبَادِهِ الْمُذنِبِينَ الخَاطِئِين ، فَهِيَ لَيلَةٌ مُبَارَكَةٌ عَظِيمَةُ القَدر ، وَهِيَ لَيلَةُ الأَنوَارِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالتَّجَلِّيَاتِ الرَّحمَانِيَّة ، فَفِيهَا يَنزِلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنيَا ، مِن غُرُوبِ شَمسِ يَومِهَا إِلَى طُلُوعِ فَجرِ لَيلَتِهَا ، فَيَتَجَلَّى اللهُ فِيهَا عَلَى عِبَادِهِ ، بِالْمَغفِرَةِ لِلمُستَغفِرِينَ وَقَبُولِ التَّوبَةِ لِلتَّائِبِين ، وَالعَفوِ عَن الْمُذنِبِينَ النَّادِمِين ، فَقَد يُحَصِّلُ الْمُؤمِنُ فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ الْمُبَارَكَةِ مَا لا يُحَصِّلُهُ فِي مِئَاتِ اللَّيَالِي سِوَاهَا ، وَمِن أَجلِ العِنَايَةِ وَالفَوزِ بِبَرَكَاتِ هَذِهِ اللَّيلَةِ العَظِيمَة ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ الْمُؤمِنِينَ بِإِحيَاءَا ، بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالاستِغفَار ، وَبِالإِكثَارِ مِنَ القُرآنِ وَالتَّهَجُّدِ وَالتَّضَرُّعِ وَالابتِهَال ، بِكُلِّ صِدقٍ وَإِخلَاصٍ وَيَقِين .

وَإِنَّ مَخَازِنَ البِرِّ وَالرَّحمَةِ وَالإِحسَانِ ، وَإِنَّ مُستَودَعَاتِ العَفوِ وَالصَّفحِ وَالغُفرَان ، يُخرِجُ اللهُ مَا فِيهَا لِيَعرِضَهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ الكَرِيمَة ، فَيَعرِضُ اللهُ تَعَالَى نَفَحَاتِهِ الْمَملُوءَةِ بِالرَّحمَةِ وَالقَبُولِ عَلَى الْمُخلِصِينَ التَّائِبِين ، فَيَنَالَ هَذِهِ الأَنوَارِ الإِلَهِيَّةِ وَالنَّفَحَاتِ الرَّبَّانِيَّة ، كُلُّ مَن يَتَعَرَّضُ لِهَذِهِ الكُّنُوزِ وَالعَطَايَا فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ الْمُبَارَكَة ، فَأَمَّا الْمُؤمِنُ الصَّادِقُ فَيَتَرَقَّبُ هَذِهِ الأَوقَات ، وَيَعبُدُ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا بِزِيَادَةِ الاستِعدَادِ لَهَا ، بِوَفرَةِ الْمَبَرَّاتِ وَالصَّدَقَات ، وَالإِكثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَات ، مِن ذِكرِ اللهِ وَالطَّاعَات ، فَيَغسِلُ الْمُؤمِنُ نَفسَهُ وَرُوحَهُ وَقَلبَهُ مِن كُلِّ مَا يُدَنِّسُهَا ، حَتَى يُصبِحَ قَلبُهُ صَافِيَاً نَقِيَّاً ، فَإِذَا لاحَت أَنوَارُ القُربِ الرَّبَّانِيِّ فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ الْمُبَارَكَة ، هَبَطَت إِلَى هَذَا القَلبِ الصَّادِقِ الْمُحِبِّ العَاشِقِ لِرَبِّه ، فَيَسعَدُ بِهَا سَعَادَةَ الدَّارَين ، وَيَمتَلِئُ قَلبُهُ بِأَنوَارِ اليَقِينِ وَالقُربِ مِن رَبِّ العَالَمِين ، وَعِندَهَا يَكُونُ مِن عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِين.

 

وَلَقَد قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي شَأنِ هَذِهِ اللَّيلَةِ الْكَرِيمَة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِين * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم} قال بعض المفسرين: إِنَّهَا لَيلَةُ النِّصفِ مِن شَعبَان . وَقَالَ نَبِيُّنَا : (إِذَا كَانَت لَيلَةُ النِّصفِ مِن شَعبَان ، فَقُومُوا لَيلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَنزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنيَا ، فَيَقُول: أَلا مِن مُستَغفِرٍ فَأَغفِرَ لَه ! أَلا مِن مُستَرزِقٍ فَأَرزُقَه ! أَلا مِن مُبتَلَىً فَأُعَافِيَه ! أَلا كَذَا أَلا كَذَا ! حَتَّى يَطلُعَ الفَجر) وَتَقُولُ سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهَا: (فَقَدتُ رَسُولَ اللهِ ، فَخَرَجتُ فَإِذَا هُوَ بِالبَقِيع ، رَافِعٌ رَأسَهُ إِلَى السَّمَاء ، فَقَال: أَكُنتِ تَخَافِينَ أَن يَحِيفَ اللهُ عَلَيكِ وَرَسُولُه ؟ فَقَالَت: يَا رَسُولَ الله ، ظَنَنتُ أَنَّكَ أَتَيتَ بَعضَ نِسَائِك ، فَقَال: (إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَنزِلُ لَيلَةَ النِّصفِ مِن شَعبَانَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنيَا ، فَيَغفِرُ لِأَكثَرَ مِن عَدَدِ شَعرِ غَنَمِ كَلب) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ النَّبِيُّ : (إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ لَيلَةَ النِّصفِ مِن شَعبَان ، فَيَغفِرُ لِجَمِيعِ خَلقِهِ إِلا لِمُشرِكٍ أَو مُشَاحِن) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ : (إِنَّ اللهَ لَيَطَّلِعُ إِلَى خَلقِهِ لَيلَةَ النِّصفِ مِن شَعبَان ، فَيَغفِرُ لِعِبَادِهِ إِلا اثنَين: مُشَاحِنٍ أَو قَاتِلِ نَفس) وَقَالَ عَطَاءٌ : إِذَا كَانَت لَيلَةُ النِّصفِ مِن شَعبَانَ دُفِعَ إِلَى مَلَكِ الْمَوتِ صَحِيفَة ، فَيُقَالُ لَه: اقبِضْ مَن فِي هَذِهِ الصَّحِيفَة ، فَإِنَّ العَبدَ لَيَغرِسُ الغِرَاسَ وَيَنكِحُ الأَزوَاجَ وَيَبنِي البُنيَان ، وَإِنَّ اسمُهُ قَد نُسِخَ فِي الْمَوتَى ، مَا يَنتَظِرُ بِهِ مَلَكُ الْمَوتِ إِلا أَن يُؤمَرَ بِهِ فَيَقبِضَه) .

فَهَذِهِ لَيلَةٌ عَظِيمَةُ القَدرِ جَلِيلَةُ الأَمرِ جَزِيلَةُ الأَجر ، وَمَا مِن لَيلَةٍ بَعدَ لَيلَةِ القَدرِ أَفضَلُ مِن لَيلَةِ النِّصفِ مِن شَعبَان ، يَنزِلُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنيَا ، نُزُولَ رَحمَةٍ وَمَغفِرَةٍ وَرِضوَان ، فَيَغفِرُ لِجَمِيعِ خَلقِهِ إِلا لِمُشرِكٍ أَو مُشَاحِنٍ أَو قَاطِعِ رَحِمٍ أَو قَاتِلِ نَفس . وَلَقَد كَانَ النَّبِيُّ  يَقُومُ لَيلَةَ النِّصفِ مِن شَعبَانَ فَيُطِيلُ فِيهَا الصَّلاة ، وَيُكثِرُ فِيهَا مِنَ الذِّكرِ وَالدُّعَاء ، مِمَّا لا يَفعَلُهُ فِي غَيرِهَا مِن اللَّيَالِي .

وَتَروِي لَنَا سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنهَا فَتَقُول: قَامَ رَسُولُ اللهِ مِنَ اللَّيلِ فَصَلَّى فَأَطَالَ السُّجُود ، حَتَّى ظَنَنتُ أَنَّهُ قُبِض ، فَلَمَّا رَأَيتُ ذَلِكَ قُمتُ حَتَّى حَرَّكتُ إِبهَامَهُ فَتَحَرَّك ، فَرَجَعتُ فَسَمِعتُهُ يَقُولُ فِي سُجُودِه: (أَعُوذُ بِعَفوِكَ مِن عِقَابِك ، وَأَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِك ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنكَ لا أُحصِي ثَنَاءً عَلَيكَ أَنتَ كَمَا أَثنَيتَ عَلَى نَفسِك) فَلَمَّا رَفَعَ رَأسَهُ مِن سُجُودِهِ وَفَرَغَ مِن صَلَاتِه ، قَالَ النَّبِيُّ : (يَا عَائِشَة ، أَتَدرِينَ أَيُّ لَيلَةٍ هَذِه ؟ قُلتُ: اللهُ وَرُسولُهُ أَعلَم ، قَالَ: (هَذِهِ لَيلَةُ النِّصفِ مِن شَعبَان ، فَيَغفِرُ لِلمُستَغفِرِينَ وَيَرحَمُ الْمُستَرحِمِينَ وَيُؤَخِّرُ أَهلَ الحِقدِ كَمَا هُم) أَي يَترُكُهُم بِلَا رَحمَةٍ وَلا مَغفِرَة . وَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ : (أَتَانِي جِبرِيلُ ، فَقَالَ: هَذِهِ لَيلَةُ النِّصفِ مِن شَعبَان ، وَللهِ فِيهَا عُتَقَاءُ مِنَ النَّار ، بِعَدَدِ شُعُورِ غَنَمِ بَنِي كَلب ، وَلا يَنظُرُ اللهُ فِيهَا إِلَى مُشرِك ، وَلا إِلَى مُشَاحِن ، وَلا إِلَى قَاطِعِ رَحِم ، وَلا إِلَى عَاقٍّ لِوَالِدَيه ، وَلا إِلَى مُدمِنِ خَمر) .

فَيَنبَغِي لِلمُؤمِنِ أَن يَغتَنِمَ هَذِهِ اللَّيلَةِ الْمُبَارَكَة ، وَأَن يَتَفَرَّغَ فِيهَا لِذِكرِ اللهِ تَعَالَى ، وَدُعَائِهِ بِمَغفِرَةِ الذُّنُوبِ وَسَترِ العُيُوب ، وَتَفرِيجِ الكُرُوبِ وَتَفرِيحِ القُلُوب ، وَأَن يُقَدِّمَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ التَّوبَةَ للهِ عَزَّ وَجَل ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَتُوبُ فِيهَا عَلَى مَن يَتُوب . وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُسلِمِ فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ العَظِيمَةِ القَدر ، أَن يَتَجَنَّبَ الذُّنُوبَ التِي تَمنَعُ الْمَغفِرَةَ وَقَبُولَ الدُّعَاء . وَقَد وَرَدَ عَن سَيِّدِنَا عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزِيزِ  أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالبَصرَة ، فَقَاَل لَه: عَلَيكَ بِأَربَعِ لَيَالٍ مِنَ السَّنَة ، فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى يُفْرِغُ فِيهِنَّ الرَّحمَةَ إِفرَاغَاً : أَوَّلُ لَيلَةٍ مِن رَجَب ، وَلَيلَةُ النِّصفِ مِن شَعبَان ، وَلَيلَةُ الفِطر ، وَلَيلَةُ الأَضحَى . وَقَال كَعبٌ : إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبعَثُ لَيلَةَ النِّصفِ مِن شَعبَانَ جِبرِيلَ إِلَى الجَنَّة ، فَيَأمُرُهَا أَن تَتَزَيَّنَ ، وَيَقُولُ لَهَا: إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَد أَعتَقَ فِي لَيلَتِكِ هَذِهِ عَدَدَ نُجُومِ اللَّيل ، وَعَدَدَ وَرَقِ الشَّجَر ، وَزِنَةَ الجِبَالِ وَعَدَدَ الرَّمل . وَقَالَ الشَّافِعِي رضي الله عنه : الدُّعَاءُ يُستَجَابُ فِي خَمسِ لَيَال : فِي لَيلَةِ الجُمُعَة ، وَفِي لَيلَتَي العِيد ، وَفِي أَوَّلِ لَيلَةٍ مِن رَجَب ، وَفِي لَيلَةِ النِّصفِ مِن شَعبَان . وَللهِ دَرُّ القَائِلِ إِذ يَقُول فِي فَضلِ هَذِهِ اللَّيلَةِ الْمُبَارَكَة:


فَيَا أَخِي الْمُسلِم اغتَنِم فُرصَةَ هَذِهِ اللَّيلَةِ العَظِيمَة ، وَهَنِيئَاً لَكَ العِتقَ مِنَ النَّارِ إِنْ كُنتَ مِن أَهلِ الطَّاعَةِ وَالاستِغفَارِ فِي هَذِهِ اللَّيلَةِ الْمُبَارَكَة ، وَإِلا كُنتَ مِمَّن يُعرِضُ اللهُ تَعَالَى عَنهُم ، وَيَحرِمُهُم مِن رَحمَتِهِ وَمَغفِرَتِهِ وَرِضوَانِه ، وَإِنَّهَا لَفُرصَةٌ ثَمِينَةٌ لِيَصطَلِحَ العَبدُ فِيهَا مَعَ رَبِّه ، فَيُقبِلَ عَلَى اللهِ بِتَوبَةٍ صَادِقَةٍ مِن الآنَ إِلَى نِهَايَةِ شَهرِ شَعبَان ، ثُمَّ يَدخُلُ عَلَى رَمَضَان ، وَقَد طَهُرَ قَلبُهُ وَصَفَت نَفسُه ، فَيَكُونُ فِي رَمَضَانَ أَهلَاً لِلرَّحمَةِ وَالْمَغفِرَةِ وَالعِتقِ مِنَ النَّار .

اللهم بارك لنا في شهر شعبان ، وبلغنا شهر رمضان المبارك ، على أحسن حال وأهدأ بال ، إنك على كل شيء قدير .

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=33&id=1803