كلمة الأسبوع

الشــتــاء ربـيــع الـمــؤمــن

الشيخ بلال سلمان


الشــتــاء ربـيــع الـمــؤمــن

إِنَّ تَقَلُّبَ الزَّمَان وَتَصَرُّفَ الأَحوَال ، مِنْ حَرٍّ إِلَى قَرٍّ وَمِنْ صَيفٍ إِلَى شِتَاء ، إِنَّمَا هُوَ بِحِكمَةِ اللهِ تَعَالى وَتَصرِيفِه ، فَهُوَ سُبحَانَهُ أَعلَمُ بِمَا يُصلِحُ عِبَادَه ، وَإِنَّ مَصَالِحَ العِبَادِ وَحَيَاتَهُم لا تَصلُحُ إِلا بِتَعَاقُبِ الحَالَين ، فَاللهُ حَكِيمٌ عَلِيم ، لَمْ يُوجِد شَيئَاً عَبَثَاً .

 

وَإِنَّ الْمُؤمِنَ لَيَتَمَيَّزُ عَنْ غَيرِهِ بِحُسنِ صَبرِهِ عِندَ الضَّرَاء ، وَبِجَمِيلِ شُكرِهِ عِندَ السَّرَّاء ، وَإِنَّ مَا نَجِدُهُ وَنُحِسُّهُ مِنْ شِدَّةِ البُرُودَة ، إِنَّمَا هُوَ نَفَسٌ مِنْ الزَّمهَرِير ، الذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللهِ r بقوله: (اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا ، فَقَالَت: رَبِّ أَكَلَ بَعضِي بَعضَاً . فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَين ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيف ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرّ ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمهَرِير)[1].

 

فَمَا أَحرَانَا أَنْ نَعتَبِرَ وَنَتَّعِظ ، فَمَهمَا تَكُن شِدَّةُ الحَرِّ فَلَيسَت أَشَدَّ مِنْ الحَمِيم ، وَمَهمَا تَكُن شِدَّةُ البَردِ فَلَنْ تَصِيرَ أَشَدَّ مِنَ الزَّمهَرِير .

وَالشِّتَاءُ ظَرفٌ يُمكِنُ تَسخِيرُهُ لِطَاعَةِ الله تَعَالَى ، لِقَولِ النَّبِيِّ u: (الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤمِن ، وَقَصُرَ نَهَارُهُ فَصَام ، وطال ليله فقام)[2]. وَقَالَ ابنُ مَسعُودٍ t: كَانَ رَسُولُ اللهِ r يَقُول: (مَرْحَبَاً بِالشِّتَاء ، فِيهُ تَنزِلُ الرَّحمَة ، أَمَّا لَيلُهُ فَطَوِيلٌ لِلقَائِم ، وَأَمَّا نَهَارُهُ فَقَصِيرٌ لِلصَائِم)[3] .

 

وَفي الشِّتَاء نِعمَتَانِ وَغِنيَمَتَانِ فَرَّطَ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن الْمُسلِمِين:

 

-فَأَمَّا الغَنِيمَةُ الأُولَى فِي الشِّتَاءِ فَهِيَ قِيَامُ اللَّيل: فَلَقَد كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ قَلِيلَاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهجَعُون ، وَبِالأَسحَارِ هُمْ يَسْتَغفِرُون ، فَقَوِيَ إِيمَانُهُم وَصَدَّقَهُ يَقِينُهُم ، فَاجتَهَدُوا وتكاسلنا وَقَامُوا وَنِمنَا ، قُدوَتُهُم فِي ذَلِكَ نبيهم u ، الذِي كَانَ يَقُومُ اللَّيلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاه ، وَكَانَ عَمَلُهُ r دِيمَة ، أَي عَلَى الدَّوَام ، وَلَقَد سُئِلَ أَحَدُ السَّلَف y: مَا بَالُنَا لا نَقُومُ اللَّيل ؟ فَقَالَ: كَبَّلَتكُم مَعَاصِيكُم .

وفي الحديث: (شرف المؤمن قيامه بالليل وعزه استغناؤه عن الناس)[4].

وَإِنَّ قِيَامِ اللَّيلِ عِبَادَةٌ تَصِلُ القَلبَ بِالله ، وَتَجعَلُهُ قَادِرَاً عَلَى التَّغَلُّبِ عَلَى مُغرَيَاتِ الحَيَاة ، وَعَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفسِ وَشَهَوَاتِهَا ، فِي وَقتٍ هَدَأَت فِيهِ الأَصَوات ، وَنَامَت فِيهِ العُيُون ، وَتَقَلَّبَ النُّوَّامُ عَلَى الفُرُش ، وَلَكِنَّ قُوَّامَ اللَّيلِ يَهُبُّونَ مِنْ فُرُشِهِمُ الوَثِيرَة وَسُرُرِهِمُ الْمُرِيحَة ، وَيُكَابِدُونَ اللَّيلَ لا يَنَامُونَ إلا القَلِيل ، وَلِذَا كَانَ قِيَامُ اللَّيلِ مِنْ مَقَايِيسِ العَزِيمَةِ الصَّادِقَة ، وَسِمَاتِ النُّفُوسِ الكَبِيرَة ، فَقَد مَدَحَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَهلَ قِيَامِ اللَّيل ، وَمَيَّزَهُم عَنْ غَيْرِهِم بِقَولِهِ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدَاً وَقَائِمَاً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَاب}[5].

 

-وَأَمَّا الغَنِيمَةُ الثَّانِيَةُ فِي الشِّتَاءِ فَهِيَ صَومُ النَّهَار: فَقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ r: (مَنْ صَامَ يَومَاً فِي سَبِيلِ اللهِ جَعَلَ اللهُ بَينَهُ وَبَينَ النَّارِ خَندَقَاً كَمَا بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرض)[6]. وَقَالَ u: (الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ الصَّومُ فِي الشِّتَاء)[7]. وَلَقَد بَشَّرَ r الصَّائِمِينَ فَقَال: (للصَّائِمِ فَرحَتَان: فَرحَةٌ حِينَ يُفطِر ، وَفَرحَةٌ حِينَ يَلقَى رَبِّه)[8]. أَمَّا فَرَحُ الصَّائِمِ عِندَ فِطرِهِ ، فَيَفرَحُ بِنِعمَتَين: نِعمَةُ اللهِ عَلَيهِ بِالصِّيَام ، وَنِعمَةُ اللهِ عَلَيهِ بِإِبَاحَةِ الأَكلِ وَالشُّربِ وَالنِّكَاح ، وَأَمَّا فَرْحَةُ الصَّائِمِ عِندَ لِقَاءِ رَبِّه ، فَيَفرَحُ بِمَا يَجِدُهُ مِن النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي دَارِ السَّلَام. فَقَد قَالَ u: (إِنَّ فِي الجَنَّةِ بَابَاً يُقَالُ لَه الرَّيَان ، يَدخُلُ مِنهُ الصَّائِمُون يَومَ القِيَامَة ، لا يَدخُلُ مِنهُ غَيرُهُم ، يُقَالُ: أَينَ الصَّائِمُون ؟ فَيَقُومُون ، لا يَدخُلُ مِنهُ أَحَدٌ غَيرُهُم ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغلِقَ فَلَم يَدخُل مِنهُ أَحَد)[9]. وَإِنَّ الاقتِصَارَ عَلَى صِيَامِ الوَاجِبِ مِنْ شَهرِ رَمَضانَ مَظَنَّةٌ لِلْتَّقصِير ، وَأَمَّا مُسَارَعَةُ العَبدِ إِلَى صِيَامِ النَّوَافِلِ فَهُوَ مُرَقِّعٌ لِمَا نَقُصَ مِنْ عَمَلِه ، ومُقَرِّبٌ لَهُ مِنْ رَحمَةِ رَبِّه ، وَمُقَيِّدٌ لِنَفسِهِ عَنْ جِمَاحِهَا وَشَهَوَاتِهَا البَاطِلَة ، وَمُعِينٌ لَهُ عَلَى أَدَاءِ الفَرضِ عَلَى الوَجْهِ الأَتَمِّ وَالسَّبِيْلِ الأَكمَل .

اللهم جعلنا من الشاكرين الطائعين آناء الليل وآناء النهار يا رب العالمين



[1]- [أخرجه البخاري (3087)].
[2]- [أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3655)].
[3] - [أخرجه الديلمي].
[4]- [أخرجه الطبراني].
[5]- [سورة الزمر (9)].
[6]- [أخرجه الترمذي (1624)].
[7]- [أخرجه الترمذي (797)].
[8]- [أخرجه الترمذي (766)].
[9]- [أخرجه البخاري (1896)].
 
Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=33&id=1604