الجامع الأموي » وصف تاريخي

الوصف التاريخي للجامع الأموي الكبير

إدارة التحرير


وصف تاريخي
الجامع الأموي في أواخر القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)
 
العهد الأيوبي
 
زار ابن جبير الجامع الأموي في أواخر القرن السادس ووصفه في رحلته وصفاً دقيقاً صادقاً.
 
قال ابن جبير : إن ذرعه في الطول من الشرق إلى الغرب : مائتا خطوة , وهي ثلاثمائة ذراع , وذرعه في السعة من القبلة إلى الجوف مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة , وهي مائتا ذراع , فيكون تكسيره من المراجع الغربية أربعة وعشرون مرجعاً, وهو تكسير مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن الطول في مسجد رسول الله من القبلة إلى الشمال وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاث مستطيلة من الشرق إلى الغرب سعة كل بلاطة منها ثمان عشرة خطوة ، والخطوة ذراع ونصف وقد قامت على ثمانية وستين عموداَ منها أربع وخمسون سارية وثماني أرجل جصية تتخللها واثنتان مرخمتان ملصقتان معها في الجدار الذي يلي الصحن ، وأربع أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصعة بفصوص من الرخام ملونة قد نظمت خواتيم وصورت محاريب وأشكالاً غريبة قائمة في البلاط الأوسط . تقل قبة الرصاص مع القبة التي تلي المحراب سعة كل رجل منها ستة عشر شبراً وطولها عشرون شبراً وبين كل رجل ورجل في الطول سبع عشرة خطوة وفي العرض ثلاث عشرة خطوة ، فيكون دور كل رجل منها اثنين وسبعين شبراً ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته الشرقية والغربية والشمالية . سعته عشر خطاً وعدد قوائمه سبع وأربعون منها أربع عشرة رجلاً من الجص وسائرها سوار فيكون سعة الصحن حاشا المسقف القبلي والشمالي مائة ذراع وسقف الجامع كله من الخارج ألواح رصاص .
 
وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب سامية في الهواء عظيمة الاستدارة ، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل من المحراب إلى الصحن ، وتحته ثلاث قباب قبة تتصل بالجدار الذي إلى الصحن وقبة تتصل بالمحراب وقبة تحت قبة الرصاص بينهما ،  والقبة الرصاصية قد أغصت الهواء فإذا استقبلتها أبصرت منظراً رائعاً ومرأى هائلاً يشبهه الناس بنسر طائر ، كأن القبة رأسه والغارب صدره ونصف جدار البلاط عن يمين ونصف عن شمال جناحاه ، ووسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة فهم يعرفون هذا الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه . ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلًقة من الجو والجامع المكرم مائل إلى الجهة الشمالية من البلد .
 
وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون ، منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر ، وفي القبة المتصلة بالمحراب ومايليها من الجدار أربع عشر شمسية ، وفي طول الجدار عن يمين المحراب ويساره أربع وأربعون ، وفي القبة المتصلة بجدار الصحن ست وفي ظهر الجدار إلى الصحن سبع وأربعون شمسية .
 
وفي الجامع المكرم ثلاث مقصورات , مقصورة الصحابة رضي الله عنهم وهي أول مقصورة وضعت في الإسلام ، وضعها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، وبإزاء محرابها المقاصير عن يمين مستقبل القبلة باب حديد ، كان يدخل معاوية رضي الله عنه إلى المقصورة منه إلى المحراب وبإزاء محرابها لجهة اليمين مصلى أبي الدرداء رضي الله عنه ، وخلفها دار معاوية رضي الله عنه وهي اليوم سماط عظيم للصفارين يتصل بطول جار الجامع القبلي ، ولا سماط أحسن منظراً منه ولا أكبر طولاً وعرضاً وخلف هذا السماط على مقربة منه دار الخيل برسمه وهي اليوم مسكونة وفيها مواضع للكمادين ، وطول المقصورة الصحابية المذكورة أربعة وأربعون شبراً وعرضها نصف الطول ، ويليها لجهة الغرب في وسط الجامع مقصورة فيها منبر الخطيب ومحراب الصلاة وأحدثت المقصورة الأخرى وسطاً وهذه المقصورة المحدثة أكبر من الصحابية وبالجانب الغربي بإزاء الجدار مقصورة أخرى هي برسم الحنفية ، يجتمعون فيها للتدريس وبها يصلون ، وبإزائها زاوية محدقة بالأعواد كأنها مقصورة صغيرة ، وبالجانب الشرقي زاوية أخرى على هذه الصفة هي كالمقصورة وهي لاصقة بالجدار الشرقي .
وبالجامع المكرم عدة زوايا على هذا الترتيب ، يتخذها الطلاب للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس وهي من جملة مرافق الطلبة .
وفي الجدار المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات القبلية عشرون باباً متصلة بطول الجدار قد علتها أقواس جصية مخرمة كلها على هيئة الشمسيات ، فتبصر العين من اتصالها أجمل منظر وأحسنه . والبلاط المتصل بالصحن المحيط والبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها ، وفيه مجتمع أهل البلد وهو متفرّجهم ومنتزههم كل عشية تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق إلى غرب من باب النوفرة إلى باب البريد فمنهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرأ لايزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون ولبعضهم بالغداة مثل ذلك ، وأكثر الاحتفال إنما هو بالعشي فيخيل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم لا يزالون على ذلك كل يوم.
 
وللجامع ثلاث صوامع ، واحدة من الجانب الشرقي وهي كالبرج المشيّد تحتوي على مساكن متسعة وزوايا فسيحة راجعة كلها إلى إغلاق يسكنها أقوام من الغرباء أهل الخير والبيت الأعلى منها ، كان معتكف أبي حامد الغزالي رحمه الله وثانية بالجانب الغربي على هذه الصفة وثالثة بالجانب الشمالي على الباب المعروف بباب الناطفيين (باب العمارة) .
 
وفي الصحن ثلاث قباب ، إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام مستطيلة كالبرج مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة ، يقال إنها كانت مخزناَ لمال الجامع وله مال عظيم من خراجات ومستغلّات تنيف (على ماذكر لنا ) على الثمانية آلاف دينار في السنة وهي خمسة عشر ألف درهم .
 
وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من الرخام ، قد ألصق أبدع إلصاق قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام وتحتها شباك حديد مستدير ، وفي وسطه أنبوب من النحاس يمجّ الماء إلى علو فيرتفع وينثني كأنه قضيب لجين يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافاً واستحساناً ، ويسمونه قفص الماء ، والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة لكن أصغر منها ، وفي الجانب الشمالي من الصحن باب كبير يفضي إلى مسجد كبير في وسطه صحن قد استدار فيه صهريج من الرخام كبير يجري الماء فيه دائماً من صفحة رخام أبيض مثمنة قد قامت وسط الصهريج على رأس عمود مثقوب يصعد الماء منه إليها ، وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى مسجد من أحسن المساجد وأبدعها وضعاً وأجملها بناءً ، ويزعمون أنه مشهد لعلي بن أبي طالب يقابله في الجهة الغربية في زاوية البلاط الشمالي من الصحن موضع هو ملتقى آخر البلاط الشمالي مع أول البلاط الغربي مجلل بستر في أعلاه وأمامه ستر أيضاً منسدل .
 
وكان هذا الجامع المبارك ظاهراً وباطناً منزلاً كله بالفصوص المذهبة مزخرفاً بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة ، فأدركه الحريق مرتين فتهدّم وجدد وذهب أكثر رخامه فاستحال رونقه فأسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها ، ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسناً وغرابة ً صنعةٍ يتّقد ذهباً كله ، وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره تحفّها سويريات مفتولات فتل الأسود كأنها مخروطة لم يُرَ شيء أجمل منها ، وبعضها حمر كأنها مرجان فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع مايتصل بها من قبابه الثلاث وإشراق شمسياته المذهّبة الملوّنة عليه واتصال شعاع الشمس بها وانعكاسه إلى كل لون منها حتى ترتمي الأبصار منه أشعة ملونة يتصل ذلك بجداره القبلي كلّه عظيم لايلحق وصفه ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر منه ، والله يعمره بشهادة الإسلام وكلمته بمنًه ، وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان رضي الله عنه وهو المصحف الذي وجّه به إلى الشام ، وتفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرك الناس بملمسه وتقبيله ويكثر الازدحام عليه .
وله أربعة أبواب : (باب) قبلي ويعرف بباب الزيادة ؛ وله دهليز كبير متسع له أعمدة عظام ، وفيه حوانيت للخرزيين وسواهم ، وله مرأى رائع ومنه يفضي إلى داخل الخيل ، وعن يسار الخارج منه سماط الصفارين وهي كانت دار معاوية رضي الله عنه وتعرف بالخضراء .
 
(وباب) شرقي هو أعظم الأبواب ويعرف بباب النوفرة ، و(باب) غربي ويعرف بباب البريد ، و(باب) شمالي ويُعرف بباب الناطفيين وللشرقي والغربي والشمالي أيضاً من هذه الأبواب دهاليز متسعة ويفضي كل دهليز منها إلى باب عظيم ، وأعظمها منظراً الدهليز المتصل بباب النوفرة ،  يخرج من هذا الباب إلى بلاط طويل عريض قد قامت أمامه خمسة أبواب مقوّسة لها ستة أعمدة طوال ، وفي وجه اليسار منه مشهد كبير حفيل ،  وبإزائه مسجد صغير ينسب لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وبذلك المشهد ماء جار ، وقد انتظمت أمام البلاط أدراج ينحدر عليها الدهليز وهو كالخندق العظيم يتصل إلى باب عظيم الارتفاع ينحسر الطرف دونه سمواً وقد حفّته أعمدة كالجذوع طولاّ وكالأطواد ضخامةً ، وبجانبي هذا الدهليز أعمدة قد قامت عليها شوارع مستديرة فيها الحوانيت المنتظمة للعطارين وسواهم وعليها شوارع أخرى مستطيلة فيها الحجر والبيوت للكراء مشرفة على الدهليز وفوقها سطح يبيت به سكان الحجر والبيوت ، وفي وسط الدهليز حوض كبير مستدير من الرخام عليه قبة تقلها أعمدة من الرخام ويستدير بأعلاها طرة من الرصاص واسعة مكشوفة للهواء ، وفي وسط الحوض الرخامي أنبوب صفر يزعج الماء بقوة فيرتفع إلى الهواء أزيد من القامة وحوله أنابيب صغار ترمي الماء إلى علو فيخرج عنها كقضبان اللجين فكأنها أغصان تلك الدوحة المائية ومنظرها أعجب وأبدع من أن يلحقه الوصف .
 
وعن يمين الخارج من باب النوفرة في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ، ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر فتحت أبواباً صغاراً على عدد ساعات النهار ، وقد دبرت تدبيراً هندسياً ، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فم بازيين مصورين من صفرة قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما طاستان إحداهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثانية تحت آخرها ؛ والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيلة الأوهام سحراً وعند وقوع البندقتين في الطاستين يُسمع لهما دوي وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين يلوح من الصفر لايزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار حتى تتغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول ، ولها بالليل تدبير آخر وذلك في أن في القوس المتعطف على الطيقان المذكورة اثنتا عشرة دائرة من النحاس مخرومة ، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة مدبّر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة ، فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها ، وقد وكّل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها وهي التي يسميها الناس المنجانة .
 
ودهليز الباب الغربي فيه حوانيت البقالين والعطارين ،وفيه سماط لبيع الفواكه ، وفي أعلاه باب عظيم يصعد إليه على أبراج وله أعمدة سامية في الهواء وتحت أبراج سقايتان مستديرتان سقاية يميناً وسقاية يساراً لكل سقاية خمسة أنابيب ترمي الماء في حوض رخام مستطيل .
 
ودهليز الباب الشمالي فيه زوايا على مساطب محدقة بالأعواد هي محاضر لمعلمي الصبيان ، وعن يمين الخارج في الدهليز خانقة مبنية للصوفية في وسطها صهريج يقال إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه والصهريج الذي في وسطها يجري الماء فيه ولها مطاهر يجري الماء في بيوتها ، وعن يمين الخارج أيضاً من باب البريد مدرسة للشافعية في وسطها صهريج يجري الماء فيه ولها مطاهر على الصفة المذكورة وفي الصحن بين القباب المذكورة عمودان متباعدان لهما رأسان من الصفر مستطيلان قد خرما أحسن تخريم يُسرَجن ليلة النصف من شعبان فيلوحان كأنهما ثريتان مشتعلتان .
 
وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم كل يوم إثر صلاة الصبح لقراءة سبع من القرآن دائماً ومثله إثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية يقرؤون فيها من سورة الكوثر إلى الخاتمة ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لايجيد حفظ القرآن ، وللمجتمعين على ذلك إجراء كل يوم يعيش منه أزيد من خمسمائة إنسان وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم فلا تخلو القراءة منه صباحاً ولا مساءً .
 
وفيه حلقات للتدريس للطلبة وللمدرسين ؛ فيها إجراء واسع وللمالكية زاوية للتدريس على الجانب الغربي يجتمع فيه المغاربة ولهم إجراء معلوم ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة وأغرب مايحدث به أن سارية من سواريه هي بين المقصورتين القديمة والحديثة لها وقف معلوم يأخذه المستند إليه للمذاكرة والتدريس أبصرنا بها فقيهاً من أهل إشبيلية يُعرف بالمرادي وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحاً يستند كل إنسان منهم إلى سارية ويجلس أمامه صبي يلقنه القرآن ، وللصبيان أيضاً على قراءتهم جراية معلومة فأهل الجدة من الآباء ينزهون أبناءهم عن أخذها وسائرهم يأخذونها وهذا من المفاخر الإسلامية وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير يأخذ منه المعلم له مايقوم به وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم ، وهذا أيضاً من أغرب ما يحدث به من مفاخر هذه البلاد وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها إنما هو تلقين ويعلمون الخط في الأشعار وغيرها تنزيها لكتاب الله عز وجل عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو ، وقد يكون في أكثر البلاد الملقن على حدة والمكتب على حدة فينفصل من التلقين إلى التكتيب لهم في سيرة حسنة ولذلك ما يتأتى لهم حسن الخط لأن المعلم له لايشتغل بغيره فهو يستفرغ جهده في التعليم والصبي في التعلم كذلك ويسهل عليه لأنه بتصوير يحذو حذوه .
ويستدير بهذا الجامع المكرم أربع سقايات في كل جامع سقاية ، كل واحدة منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت الخلائية والماء يجري في كل بيت منها وبطول صحنها حوض من الحجر مستطيل تصب فيه عدة أنابيب منتظمة بطوله ، وإحدى هذه السقايات في دهليز باب النوفرة وهي أكبرها وفيها من البيوت نيّف عن الثلاثين ، وفيها زائداً على السقاية المستطيلة مع جدارها حوضان كبيران مستديران يكادان يمسكان لسعتهما عرض الدار المحتوية على هذه السقاية والواحد بعيد عن الآخر ، ودور كل واحد منها نحو الأربعين شبراً والماء نابع فيهما ، والثانية في دهليز باب الناطفيين بإزاء المعلمين ، والثالثة عن يسار الخارج من باب البريد والرابعة عن يمين الخارج من باب الزيادة .
وفيه مشهد يحيى بن زكريا عليه السلام وعليه تابوت خشب معترض من الأسطوانة وفوقه قنديل كأنه من بلّور مجوّف كأنه القدح الكبير .
صعوده إلى القبة :
 
ومن أعظم ما شاهدناه من مناظر الدنيا الغريبة الشأن وهياكلها الغريبة البنيان المعجزة الصنعة والإتقان والمعترف بوصفها بالتقصير لسان كل بيان الصعود إلى أعلى قبة الرصاص المذكورة في هذا التقييد القائمة وسط الجامع المكرم والدخول في جوفها وإجالة لحظ الاعتبار في بديع وضعها مع القبة التي في وسطها كأنها كرة مجوّفة داخلة في وسط كرة أخرى أعظم منها .
 
صعدنا إليه في جملة من الأصحاب المغاربة ضحوة يوم الاثنين الثامن عشر لجمادى الأولى سنة 580 من مرقى في الجانب الغربي من بلاط الصحن كان صومعة في القديم ، وتمشّينا على سطح الجامع المكرم وكله ألواح رصاص منتظمة كما تقدم الذكر لذلك وطول كل لوح أربعة أشبار وعرضه ثلاثة أشبار وربما اعترض في الألواح نقص أو زيادة حتى انتهينا إلى القبة المذكورة ، فصعدنا إليها على سلّم منصوب والريح تكاد تطير بنا فحَبَوْنا في الممشى المطيف بها وهو من رصاص وسعته ستة أشبار فلم نستطع القيام عليه لهول الموقف فيه فأسرعنا الولوج إلى جوف القبة على أحد شراجيبها المفتحة في الرصاص فأبصرنا مرأى تحار فيه العقول وتقف دون إدراكه هيبة وصف الأفهام وجلنا على فرش من الخشب العظام حول القبة الصغيرة الداخلة في جوف الرصاصية على الصفة التي ذكرناها ولها طيقان يبصر منها الجامع ومن فيه فكنا نبصر الرجال فيه كأنهم الصبيان وهذه القبة مستديرة كالكرة ظاهرها من خشب قد شد بأضلاع من الخشب الضخام موثّقة بمناطق من الحديد ينعطف كل ضلع عليها كالدائرة وتجتمع الأضلاع كلها في مركز دائرة من الخشب أعلاها وداخل هذه القبة – وهو ما يلي الجامع المكرم- خواتيم من الخشب منظم بعضها ببعض قد اتصلت اتصالاً عجيباً وهي كلها مذهبة بأبدع صنعة من التذهيب مزخرفة التلوين بديعة القرنصة يرتمي الأبصار شعاع ذهبها وتتحير الألباب في كيفية عقدها ووضعها لإفراط سموّها .
 
أبصرنا من تلك الخواتيم الخشبية خاتماً مطرحاً جوف القبة لم يكن طوله أقل من ستة أشبار في عرض أربعة وهي تلوح في انتظامها للعين كأن دورة كل واحد منها شبر أو شبران الغاية لعظم سموّها.
 
والقبة محتوية على هذه القبة المذكورة ، وقد شُدّت أيضاً بأضلاع عظيمة من الخشب الضخام موثّقة الأوساط بمناطق الحديد وعددها ثمان وأربعون ضلعاً بين كل ضلع وضلع أربعة أشبار قد انعطفت انعطافاً عجيباً ، واجتمعت أطرافها في مركز دائرة من الخشب أعلاها ودور هذه القبة الرصاصية ثمانون خطوة وهي مائتا شبر وستون شبراً ، والحال فيها أعظم من أن يبلغ وصفها إنما هذا الذي ذكرناه ندبة يستدل بها على ما وراءها وتحت الغارب المستطيل المسمى النسر الذي تحت هاتين القبتين مدخل عظيم هو سقف للمقصورة بينه وبينها سماء خاص مزيّنة ، وقد انتظمت فيه من الخشب مالا يحصى عدده وانعقد بعضها ببعض وتقوّس بعضها على بعض وتركّبت تركيباً هائلاً منظره ، وقد أدخلت في الجدار كله دعائم القبتين المذكورتين وفي ذلك الجدار حجارة كل واحد منها يزن قناطير مقنطرة لا تنقلها الفيلة فضلاً عن غيرها فالعجب كل العجب من تطليعها إلى ذلك الموضوع المفرط السمو وكيف تمكنت القدرة البشرية لذلك ، فسبحان من ألهم عباده إلى هذه الصنائع العجيبة ومعينهم على الثاني لما ليس موجوداً في طبائعهم البشرية ومظهر آياته على أيدي من يشاء من خلقه لا إله سواه . والقبتان على قاعدة مستديرة من الحجارة العظيمة قد قامت فوقها أرجل قصار ضخام من الحجارة الصمّ الكبار وقد فتح بين كل رجل ورجل شمسية واستدارت الشمسيات باستدارتها،  والقبتان في رأي العين واحدة وكنّينا عنها باثنتين لكون الواحدة جوف الأخرى والظاهر منها قبة الرصاص .
الجامع الأموي في القرن الثامن :
وقد زار المسجد الرحالة ابن بطوطة , في أوائل القرن الثامن , ووصف المسجد , وليس في وصفه اختلاف كبير عن وصف ابن جبير .
المرجع : الجامع الأموي في دمشق , علي الطنطاوي , دار المنارة , جدة , السعودية , 1410 هـ /1990م
Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=145&id=190