الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2017-11-05 الساعة 08:57:21
مهنة القضاء والمحاماة -1 -
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ   وَسَتُرَدُّونَ إِلَى

عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*} [التوبة: 105].

وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].

أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ

أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ».

وأخرج البخاري ومسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين».

هذه هي الخطبة الثامنة والعشرون في سلسلة (مهنتي: فقهها وآدابها)، ونبدأ اليوم الحديث عن مهنة القضاء والمحاماة.

أيها الإخوة:

 إذا أردتم أن تعرفوا مقدار تقدم الأمم, وباعَها في الحضارة والرقي, فانظروا إلى تشريعها المتمثل في القانون الذي ينظم حياتها ويضبط سلوك أفرادها.

ويحق لنا نحن المسلمين أن نفاخر الدنيا بأن تشريعنا الإسلامي هو أضخم وأشمل تشريع عرفته البشرية عبر تاريخها.

ولذا رأيت المكتبة الإسلامية تزدحم رفوفها بكتب القضاء والتشريع والتقنين وتراجم

القضاة وأخبارهم وتواريخهم ونوادرهم ومؤلفاتهم، وكتب الأحكام السلطانية والاحتساب.

كيف لا؛ ومسائل الحدود والجنايات والتعزير والشهادات والإقرار والوصايا والميراث

والوقف والمعاملات المالية والأحوال الشخصية والأحكام السلطانية تمثل أربعة

أخماس الدين.

   رأيت نافعاً – أيها الإخوة- أن أتخير لكم شيئاً مما كتبه القاضي الشيخ الأديب

الفقيه علي الطنطاوي في مقالته (القضاء في الإسلام) المنشورة في كتابه فكر و

مباحث، قال:

(يا سادتي! أحب أن أكون هذه العشية مؤرخاً لا شاعراً، وأن أعرض عليكم حقائق

ثابتة بأسلوب هادئ، فلا أفخر ولا أبالغ، ولا أملأ الآذان إغراقاً وتهويلاً، فإذا سمعتم

مبالغة فاعلموا أن الواقع هو الذي يبالغ، وما هو ذنبي إذا كان قضاتنا الأولون قد

نظموا بأعمالهم قصائد دونها في الفخر معلقة ابن كلثوم، وجعلوا من مناقبهم مفخرة خالدة لكل من قال (أنا عربي)، أو قال (أنا مسلم). . . كانوا أعلام الهدى في طريق

العدالة، وكانوا الدراري في سماء القضاء، قد بذوا كل سابق وفاتوا كل لاحق، و

ما كان مثلهم، ولا أحسبه يكون!

...لا تعجبوا، ففي تاريخنا من الأمجاد ما لو أفيض على أفراد البشر لجعلهم كلهم عظماء!

   وبعد، يا سادتي، فإن القضاء أعلى درجة استطاع البشر الارتقاء إليها... ارفعوا

القضاء من تاريخ الإنسان يهبط إلى درك البهائم، ويأكل القويُّ من بني آدم الضعيفَ

، وإنّ معنى الإنسانية وحقيقتها في الحياة المجتمعة الهادئة الآمنة، التي لا يطغى

فيها أحد على أحد، والتي تصان فيها الحقوق والحريات، وتحفظ الدماء والأعراض،

ويتحقق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يكون ذلك كله إلا

بالقضاء.

والقضاء -عند المسلمين- عبادة من أشرف العبادات، لأنه إظهار للعدل، وبالعدل

قامت الأرض والسموات.

وصف الله به نفسه {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [البقرة: 113] و {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ}

[يونس: 93] وأمر به نبيه {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}

[المائدة: 49]، وجعل أنبياءه قضاة بين خلقه {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ

يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44]، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26].

    يا أيها السامعون! إني لا ألقي خطابيات، ولكن أسرد حقائق: هذا قضاؤنا، فمن

عرف قضاء أشد منه استقلالا؟ هل نال قاض في أمة من الحرية مثل ما كان لقضاتنا؟

لم يكن القاضي مقيداً بمذهب بعينه لابد له في مخالفته، ولا مربوطاً بقانون بذاته لا

يملك الخروج من ربقته، وليس لخليفة عليه في حكمه سلطان، ولا لأمير معه في قضائه كلام...

تبدلت على المسلمين دول، واختلفت حكومات، وقام قاسطون ومقسطون، وخيرون

 وشريرون، والقضاء في حصن حصين، لا تبلغه يد عادل ولا ظالم، ولا يمسه خليفة حق ولا سلطان جائر...

   القاضي واجتهاده، مرجعه كتاب الله وسنة نبيه، ورقيبه ضميره ودينه، ووازعه إيمانه ويقينه. وإن الأصل فيه أن يكون من أهل الاجتهاد لا من المقلدين.

ولعمر الحق ما فرط قضاتنا بأمانة إقامة العدل في الأرض ولا أضاعوها، بل كانوا

أمناء عليها، قائمين بحق الله فيها، لا يعرفون في الحق كبيرا ولا صغيراً، يقيمونه

على الملوك قبل السوقة، ويأخذون للضعيف الواني من القوى العاتي، لم تكن تنال منهم رغبة ولو جئتهم بكنوز الأرض، ولا تبلغ رهبة ولو لوحت لهم بالموت منشوراً، بل

كانوا في الحق كالجبال هيبة وثباتاً، وفي إنفاذه كالصواعق مضاء وانقضاضاً...

   ادعت امرأة مجهولة عند شريك قاضي الكوفة على الأمير الخطير ابن عم الخليفة

وثاني رجل في الدولة  عيسى بن موسى، فحكم عليه حكما غيابيا، فامتنع الأمير من إنفاذه وتوسل إليه بكاتبه، فحبس القاضي الكاتب لأنه مشى في حاجة لظالم، فاستعان

عليه بجماعة من وجوه العراقيين من إخوان القاضي، فساقهم جميعاً إلى الحبس، فغضب الأمير وبعث من أخرجهم.

عند ذلك - أيها السادة - عصفت نخوة الشرع في رأس القاضي، وأخذته عزة

 الإيمان فقال: (والله ما طلبنا هذا الأمر (يعني المنصب)، ولكنهم أكرهونا عليه، وضمنوا لنا فيه الإعزاز إذ تقلدناه لهم).

ثم ختم قمطره، وجمع سجلاته، واحتمل بأهله، فتوجه نحو بغداد، ووقعت الرجفة في الكوفة حين مشى فيها خبر خروج القاضي، حتى خاف الأمير على سلطانه، فلحق

بالقاضي يناشده الله أن يرجع، فقال القاضي: (لا والله حتى يرد أولئك إلى الحبس،

فما كنت لأحبس أنا وتطلق أنت)؛ فبعث الأمير من يرجعهم إلى الحبس، والقاضي

واقف ينتظر حتى جاءه الخبر بأنهم قد أرجعوا، فقال القاضي لغلامه: خذ بلجام دابة الأمير وسقه أمامي إلى مجلس الحكم، إلى المسجد، أيها السادة، وهناك أجلسه بين

يديه مع المرأة، فلما انتهت المحاكمة وحكم لها عليه، نهض إليه فسلم عليه بالأمارة وقال له: هل تأمر بشيء؟ فضحك الأمير وقال: بماذا أمر؟ وأي شيء بقي؟ قال له

شريك: أيها الأمير، ذاك حق الشرع، وهذا حق الأدب. فقام الأمير وهو يقول: من

عظم أمر الله، أذل الله له عظماء خلقه!

   هذا قضاؤنا، وهؤلاء قضاتنا، فهل في أمة اليوم مثل ما كان لقضائنا وللقضاة من رفيع الشأن وعظيم القدر؟)

يسعني في خطبة اليوم أن أجيب عن سؤالين اثنين:

- ما الحكم في ترافع المحامي عن ظالم؟

- هل يجوز التحاكم إلى القوانين الوضعية؟

 وإليكم الإجابات والله المعين.

السؤال الأول: ما الحكم في ترافع المحامي عن ظالم؟

الجواب:

المحاماة مفاعلة من الحماية، ومقصودها حماية الحق والخير والعدل ونشرها في المجتمع.

فإذا كانت المحاماة لحماية الخير والذود عنه فإنها حماية محمودة مأمور بها في

 قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. خصوصاً وإن بعض الناس

 لا يحسنون البيان ولا الإفصاح عن حقائق الأمور فيأتي المحامون ليبينوا عن الحق أمام القضاة ويكشفوا عن ملابسات الأمور.

  وأما إن كانت المحاماة لحماية شر ودفاع عنه فلا شك أنها محرمة؛ لأنها تصير

وقوعاً فيما نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

والمحامي المنضبط بأمر الله ينظر في القضية المعينة قبل أن يدخل فيها، فإن رأى

الحق مع طالب الوكالة منه دخل في القضية وانتصر للحق ونصر صاحبه. وإن رأى الحق في غير جانب طالب الوكالة فينظر:

فإن رأى نفسه قادراً على رد الظالم عن ظلمه أو على حمايته من تجاوز الخصم لحقه معه دخل في القضية وقبل الوكالة قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله هذا المظلوم، فكيف ننصره إذا كان ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه». [البخاري].

فينصح المحامي موكله الظالم ويحذره ويخوفه من الدخول في هذه القضية ويبين له وجه بطلان دعواه حتى يدعه مقتنعاً بها، فذلك نصره وعونه.

أما إذا لم ير المحامي نفسه قادراً على منع الظلم فلا يحل له أن يعين الظالم ويترافع

 عنه ويقبل وكالته؛ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]. أخرج أبو داود وابن ماجه في سننهما عن عبد الله بْنِ عُمَرَ،

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ

مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ولفظ ابن ماجه: «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ، أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ». والله أعلم.

السؤال الثاني: هل يجوز التحاكم إلى القوانين الوضعية؟

الجواب:

الأصل أن يتحاكم الناس إلى شرع الله وقانونه، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ

اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] ، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ

مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } [المائدة: 48].

وقد كانت بلاد المسلمين تحكم بالشريعة الإسلامية إلى أن نزل المستعمر فيها وأنزل الخراب إليها فرفع قوانين البلاد ووضع قوانينه، ورحل المستعمر ولكنه أبقى ذيوله

فعُدِّل مع الأيام بعض هذه القوانين ونسخ بعضها الآخر وزيد عليها وأنقص.

    على أن فيها ما يوافق الشريعة الإسلامية وفيها ما يخالفها، وترافع المحامي

أمام القضاء بقوانين وضعية ليس محرماً إذا كان القصد هو الحصول على الحق و

دفع الظلم، فإن المظلوم مضطر إلى التحاكم إلى هذه القوانين لأخذ حقه، ولا يزال

الناس محتاجين إلى محامٍ أمين يترافع عنهم، ويرد إليهم حقوقهم وإلا لأكل الناس بعضهم بعضاً، وحصلت الفوضى في المجتمع .

 لكن إذا حكم له القانون بأكثر من حقه المقرر شرعاً فإنه يحرم عليه أخذه، وإنما

يأخذ حقه فقط.

على أن المحامين والقضاة والمشتغلين في التشريع مطالبون على سبيل فرض الكفاية أن يبذلوا وسعهم بالحجة والعلم والإقناع بالاشتغال بالتقنين الموافق لأحكام الشريعة وبرفع كل مادة قانونية فيها مخالفة صريحة للشريعة الإسلامية؛ لينالوا أجر الصدقة الجارية في تحكيم الشريعة في البلاد والعباد.

قرر المؤتمر الدولي الثاني للقانون المقارن الذي عقد بباريس سنة 1937م "اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من أهم مصادر التشريع العام" و"اعتبار الشريعة

الإسلامية شريعة حيَّة صالحة للتطوّر, واعتبارها قائمة بذاتها وليست مأخوذة من غيرها. فما على المشتغلين بالتشريع من المسلمين إلا أن يظهروا العلم وينشروه وينافحوا عنه. والله أعلم.  

 

أيها الإخوة:

هذه إجابات على بعض أسئلتكم المتعلقة بمهنة القضاء والمحاماة. وللموضوع تتمة

إن شاء الله، واذكروا أن المطلب الرئيس من كل من يستمع لهذه الخطب أن يُحَكِّم

شرعَ الله في مهنته، لئن فعلتَ فأنت تتعبد الله تعالى في مكان عملك تماماً كما تتعبد

الله تعالى في مسجدك، وإن لم تفعل فحاول أن تفعل، وابدأ الآن.          

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1092
تحميل ملفات
فيديو مصور