الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2017-02-06 الساعة 11:03:33
إن الله اصطفى لكم الدين
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

 

 

قال الله تعالى على لسان أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم:

{يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة].

وقال الله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29].

عنوان خطبة اليوم: (إن الله اصطفى لكم الدين)

أيها الإخوة:

الدين بالتعريف: هو نظام إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم الحر لإسعادهم

في الدنيا والآخرة.

قولهم (نظام) يعني أن الدين يحوي نظاماً عقدياً ونظاماً تشريعياً ونظاماً أخلاقياً، وأخذ جزء من الدين في الأخلاق مثلاً أو في بعض التشريع دون بعض، أو في الاعتقاد وحسب من دون تشريع وأخلاق لا يكون نظاماً، فلا يكون ديناً، وإنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه.

وقولهم (إلهي) يعني ليس بشرياً ولا وضعياً. بل هو إلهي معصوم من الخطأ صالح لكل زمان ومكان.

وقولهم (سائق) بمعنى أنه يقود الناس ويحكم على الناس ويوجه أفكار الناس وسلوكهم ومشاعرهم.

وقولهم (لذوي العقول) يخرج فاقدي العقل أو المرضى العقليين من خطاب الدين، بل إن الدين يرفع عنهم التكليف.

قولهم (باختيارهم الحر) يدل على أن لا إكراه في الدين ولا إجبار (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، على أن الإنسان محاسب على اختياره.

قولهم (لإسعادهم في الدنيا والآخرة) يدل على أن الدين جاء لسعادة الفرد والجماعة في الدارين (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).

يبدأ المسلم نهاره إذا فتح عينيه للنور بقوله r: «أصْبَحْنا وأصْبَحَ المُلْكُ لِلَّهِ

عَزَّ وَجَلُّ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَالكِبْرِياءُ وَالعَظَمَةُ لِلَّهِ، وَالخَلْقُ وَالأمْرُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ

وَما سَكَنَ فِيهما لِلَّهِ تَعالى» [الطبراني].

ثم يقول: «أَصْبَحْنَا على فِطْرَةِ الإسلامِ، وكلمةِ الإخْلاصِ، وعلى دِينِ نَبِيّنَا

محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعلى مِلَّةِ أَبينا إبراهيمَ، حَنِيفاً مُسْلِماً، وما كانَ من المُشْرِكِينَ» [أحمد].

ثم ينطلق نحو وضوئه وصلاته فإذا كبر تكبيرة الإحرام دعا فقال:

«وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً مُسْلِماً وما أنا من

المُشْرِكِينَ، إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبّ العالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وأنَا مِنَ المُسْلِمينَ» [النسائي].

ويدعو بعد صلاته في أدعية الصباح: «رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً،

وبمحمد نبياً» [الترمذي].

وما من عبد يقول حين يمسي وحين يصبح: «رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، إلا كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة» [الترمذي].

ويُمضي يومَه كما يحب الله ويرضى وكما يأمره دينه ويرضى، حتى إذا تعب

من عناء يومه وأدى حقوق ربه وحقوق نفسه وحقوق العباد عليه عاد

لينهي يومه بقوله: «باسمك ربي وَضَعْتُ جنبي، وبك أرفعُهُ، إنْ أَمْسكْتَ نَفْسي فارْحَمْها، وإنْ أرْسَلتَها فَاحْفَظْها بما تَحْفظُ به عبادَك الصالحينَ» [الترمذي].

«اللَّهمَّ أسْلَمْتُ نَفْسي إليك، ووجَّهْتُ وجهي إليك، وفوَّضْتُ أمْري إليك،

وألجَأْتُ ظَهْري إليك، رَغْبة ورَهْبة إليك، لا مَلْجأ، ولا مَنْجَا منك إلا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيِّك الذي أرسلتَ» [البخاري].

وهكذا يتقلب المسلم في ليله ونهاره بين استسلام لله تعالى وامتثال لأمره واعتراف بدينه وتمسك بشعائره، وهو يقول في كل يوم على أقل تقدير خمساً وثمانين مرة (الله أكبر) في فرائضه الخمس، ويسمع أصوات المؤذنين تصدح

في سماء بلده بل في سمع الدنيا (الله أكبر) ثلاثين مرة في كل يوم.

ويعلم المسلم أن للدين حكماً عند كل حركة وسكنة منه، فللدين حكم في زواجه وطلاقه، وفي بيعه وشرائه، وفي سفره وحضره، وفي صلاته وصومه، وفي ترشيحه وانتخابه، وفي جده وهزله، وفي ظاهره وباطنه.

وهو يجتهد أن يطبق أحكام الدين في كل ذلك، فإن جهل شيئاً من ذلك تعلمه،

وإن خالف شيئاً استغفر وعاد.

بعد كل هذه المقدمة أيها الإخوة..

ترى هل يستطيع المسلم أن يفصل الدين عن الحياة؟!

هل يستطيع أن يفصل الدين عن بيعه وشرائه؟!

 كيف؛ وهو يقرأ أطول آية في القرآن الكريم آية المداينة في سورة البقرة،

ويقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة تتحدث عن فقه المعاملات

المالية: «البيعان بالخيار مالم يتفرقا» [البخاري] «من احْتكَرَ طَعامًا فَهُوَ

خاطئ» [مسلم] «ثلاثةٌ أنا خَصْمهم يوم القيامة: رجل أعطَى بي ثم غَدَر،

ورجل باع حرّاً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً واستوفَى منه العمل ولم يُوفِّه أجْرَه» [البخاري].

ولن يضبط الإنسانَ في سلوكه في سوقه التجاري وفي معاملاته المالية مثل الدين.

 ألقى رجال الشُّرطة القبض على موظف مسؤول عن قمع السَّرقات في شركة كهرباء عامَّة في بلد عربي، وهو متَّهم بقيامه بعدد كبير من عمليات سرقة الكهرباء!!

ومدير مصرف في بلد غربي وأحد موظفيه يختلسان من البنك ما يقارب المليون والنِّصف دولار خلال عام!!

ترى هل يستطيع المسلم أن يفصل الدين عن الحياة؟!

هل يستطيع أن يفصل الدين عن زواجه وطلاقه؟!

 كيف، وهو يقرأ سورة في القرآن الكريم تسمى بسورة الطلاق ويقرأ أحاديث

النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة التي تنظم له علاقته مع زوجه وأصوله

وفروعه «تزوَّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم» «أيُّما امرأة سألت

 زوْجها الطلاق، من غير بأس: فحرام عليها رائحةُ الجنة» «اعدلِوا بين أبنائكم» «إن أولادَكُم مِنْ أطْيَبِ كَسْبِكُم، فكُلُوا مِنْ كَسْبِ أوْلادِكُم»

ولن يستطيع أن يبني الأسرة ويحفظ عفاف الزوج وطهارة الزوجة مثل الدين

، ألم يأتكم الإحصاء أن ثلث المواليد في أميركا غير شرعيين، وأن ربعهم في أوربا كذلك!!.

هل يستطيع أن يفصل المسلمُ الدينَ عن علاقاته مع أبناء وطنه من كان منهم على دينه أو كان على خلافه؟!

 كيف وهو يقرأ سورة في القرآن الكريم من طوال السور باسم عائلة السيد المسيح آل عمران وسورة باسم السيدة مريم ويقرأ سورة المؤمنون.

كتب بطريرك بيت المقدس في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن

العرب المسلمين كما نقلت المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) في كتابها

"شمس العرب تسطع على الغرب": (إنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا البتَّة، وهم لا يستخدمون معنا أيَّ عنف).

ووضع هارون الرشيد جميع المدارس في بغداد تحتَ إشراف يوحنا بن

ماسويه، وقرّب الخليفة المتوكّل العباسي، حنين بن إسحاق النصراني يترجم له الكتب فيعطيه وزنها ذهباً، ودرس البابا سلفستر الثاني في جامع قرطبة في الأندلس، ويَذكُر الجاحظ في إحدى رسائله المهَنَ المهمَّة التي عمل بها غير

المسلمين في المجتمع المسلم يأخذون منها حقَّهم وحظَّهم قال: ( إن منهم

كتَّاب السلاطين، وفرَّاشِيّ الملوك، وأطباءَ الأشراف، والعطَّارين والصيارفة)،

بل إنهم ترقَّوا في وظائف الدولة المسلمة ليحظوا حيناً بالوزارة، وحيناً برئاسة الوزارة، وما ذِكْرُ فارس بيك الخوري عنَّا ببعيد.

ونحن في هذا البلد سورية نعيش شراكة حقيقية مع أبناء عمومتنا النصارى،

فهم أبناء السيد المسيح ونحن أبناء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء إخوة أبناء علات.

هل يستطيع المسلم أن يفصل الدين عن حزنه وسروره وصومه وصلاته وعسره ويسره؟!

 كيف وهو يقرأ قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2]، ومفهوم المخالفة: أنزلنا عليك القرآن لتسعد.

ويقرأ قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قال المفسرون: إلا ليسعدوا بعبادتي.

ويقرأ قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].

 

أيها الإخوة:

إن بلاداً بعيدة أرادت يوماً كف الدين عن حياة الناس وحملت فلسفة تقول:

(الدين أفيون الشعوب) فانتهى بها الحال إلى التفكك والسقوط وتحولت إلى أطلال دول، وذهبت فلسفتها المهترأة وبقي الدين.

لأنه بالخبز وحده لا يحيا الإنسان، وإنما عليه أن يروي أيضاً ظمأُه الروحي

وبحثُ فطرته عن حقيقة وجوده على هذه الأرض وعبوديته لله وحده، فحتى إذا امتلأت معدة الإنسان فسيظل يعيش خواءاً أو فراغاً يجعل حياته عديمة المعنى والجدوى.

وإن بلاداً أوروبية فصلت بين ما هو ديني وما هو دنيوي فكان ماذا؟

لقد انتشر الانحلال والفساد الأخلاقي، وتهافت الناس على إرضاء ملذاتهم ورغباتهم الغريزية الأمر، الذي أدى بالنهاية إلى حدوث شرخٍ في بنية تلك المجتمعات.

فتقوضت مؤسسة الزواج والأسرة، وتخلخلت قيم احترام الكبير والعطف على الصغير واحترام القيم والعادات الحسنة، وباتت الأنا هي الحاكمة بين الناس.

ونحن – أيها الإخوة- بفضل من الله مع كل ما نعانيه من أزمات وشدائد

واعتداء من دول قريبة وبعيدة، نعيش في هذا البلد سورية – قيادة وشعباً-

حياة الإيمان، كنا على هذا وسنبقى بإذن الله نجتهد أن نعمر الدنيا بما يزيد

آخرتنا عمراناً، يُتلى القرآن آناء الليل وأطراف النهار، ويُدَرَّس حديث رسول

الله صلى الله عليه وسلم، ونعلّم أبنائنا الدين في مدارسنا ومساجدنا وبيوتنا، ويحكم علاقاتنا الأسرية قانونُ الأحوال الشخصية المتطابق مع الشريعة والفقه

الإسلامي، ونفخر أن دستورنا ينص على أن الفقه الإسلامي مصدر من مصادر

التشريع في بلدنا وأن دين رئيس الدولة الإسلام، وهذا تعبير عن حالة

 ديمقراطية حقيقية، وتتلاقى الأيدي وتتشابك الأكف، وإن كنا نخطئ أحياناً ونقصر أحياناً ولكننا نعود لنفيء إلى أمر الله.

أيها الإخوة:

الإنسان هو الإيمان، ومن دون الإيمان تضعف الأوطان.

إذا الإيمان ضاع فلا أمان

ولا دنيا لمن لم يحي دينَا

ومَن رَضِيَ الحياة بغير دِين

فقد جعل الفناء لها قرينَا

وفي التوحيد للْهِمَمِ اتحادٌ

ولن نصل العلا متفرِّقينَا

 

أيها الإخوة:

إذا كان الله تعالى اصطفى لنا الدين: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] فإنا نرضى بما يرضى الله ونأبى ما يأباه.

 

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1620
تحميل ملفات
فيديو مصور