قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم: 6]
قال سيدنا عليّ رضي الله عنه: قوا أهليكم نَارًا علّموهم وأدّبوهم.
أخرج الترمذي بإسناد مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا نَحَلَ
وَالِدٌ وَلَدًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ».
أيها الإخوة:
الحياة الزوجية محرابٌ من محاريب العبادة، وتربيةُ الأبناء بابٌ من أبواب القرب
إلى الله تعالى، ولهذا جاءت سلسلة – تربية الأبناء- لعلّنا نفيد منها جميعاً في زيادة قربنا إلى الله ببرنا بأبنائنا ورعايتنا لهم.
وقد وصلنا لخاتمة السلسلة بعد أنْ تكلمنا عن ثماني مقدمات مهمة في التربية،
وثمانية مراحل عمرية للأبناء من السنة الأولى وحتى الرابعة والعشرين، جعلنا
كلّ ثلاث سنوات مرحلة، وتحدثنا في كل مرحلة عن ثلاثة أمور؛ أهم الاحتياجات
، وأهم المخاطر، وأهم ما يمكن غرسه تربوياً.
وفي خاتمة السلسلة أستطيع القول إن كلمات السر الأربع في صلاح الأبناء هي:
اللجأ إلى الله، والحب، والقدوة الحسنة، والصحبة الصالحة.
ولئنْ كانتِ الأسرةُ بالأمس تُعنى بالتربية فإنّه مطلوبٌ منها اليوم زيادةُ عناية
بالتربية أمام هذه المغريات والمضلات التي تحيط بشبابنا وبناتنا، خصوصاً وأنّ الحرب المعلنة والقادمة هي حربٌ على الأسرة بكل مكوناتها.
حربٌ تأخذُ المرأةَ وحدَها بعيداً عن أمومتها وبُنُوَتِها وأُخُوَتِها وزوجيّتها، وتتفرّد
بالطفل وحده منفصلاً عن والديه وإخوته ومعلميه ومؤدبيه، وتبتدع علاقاتٍ آثمةً
بين الرجال والنساء لتسميها زواجاً بعيداً عن الزواج الشرعي، تحت شعار حقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحقوق الإنسان والحرية.
لقد بات لزاماً على كل من يمضي نحو الزواج أنْ يتدربَ على تربية الأبناء،
وماذا عليه لو خضع لدورة تأهيلية للحياة الزوجية، ودورة تأهيلية في تربية الأبناء ونحوهما؛ لأن المرء لا يولد عالماً.
ولئن كنّا نعقدُ بشكلٍ متكررٍ دوراتٍ تأهيليةً للحياة الزوجية؛ فلعلّنا في قادمات
الأيام نعلن عن دورات في تربية الأبناء لتكون قربة إلى الله تعالى بحماية أسرنا.
ولأنّ كلماتِ السر الأربع في التربية هي الحب، والقدوة الحسنة، والصحبة الصالحة، واللجأ إلى الله تعالى.
فقد تكلمت في الخطبة الماضية عن (التربية بالحب)، واسمحوا لي اليوم أنْ أختم
السلسلة بالحديث عن اللجأ إلى الله تعالى؛ لعظيم أثره في صلاح الأبناء وحسن تربيتهم..
عنوان خطبة اليوم : (أثر الالتجاء إلى الله تعالى في صلاح الأبناء).
أيها الإخوة:
العوالمُ وما حوتْ، والأنفسُ وما عليه انطوتْ، والقلوبُ وما وعتْ؛ بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، سبحانه يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويقبض ويبسط، له الحكم وإليه ترجعون.
الدنيا ومن فيها، والآخرة ومبانيها، والإنس والجان والصراط والميزان والحوض
والدواوين وما يليها؛ خَلْقٌ من خلق الله، يأمرُ فيه وينهى، سبحانه له الحكم وهو أسرع الحاسبين.
سعيُ الآباء، وأملُ الأبناء، ورجاءُ المعلمين والمربين والصلحاء والعلماء بيد الله مَن بيده مقاليد الأرض والسماء، سبحانه كلّ يوم هو في شأن.
شأنه أنَّه يغفر ذنباً، ويفرِّج كَرْباً، ويكشف غمَّاً، وينصر مظلوماً، ويأْخذ ظالماً، ويفكُّ عانياً.
شأنه سبحانه أنه يصلح ولداً، ويغني فقيراً، ويجبر كسيراً، ويشفي مريضاً، ويُقِلّ عثرة، ويستر عورة.
شأنه سبحانه أنه يُعزّ ذليلاً، ويُذلّ عزيزاً، ويعطي سائلاً، ويحفظ مسافراً، ويرد غائباً، ويحفظ مفقوداً.
يرفعُ أَقواماً ويضع آخرين، فهو سبحانه المتصرف في الممالك كلِّها، لا ينازعه في مُلكِه منازع، ولا يعارضه فيه معارض.
فمهما التجأتَ إلى الله في صلاح ولدك ورشاده، وفي سداد ابنك وسعادته؛ فقد لجأتَ إلى ركن وثيق واعتمدت على قوي رفيق.
وبعد كل ما سمعتَ في هذه السلسلة من أساليب وطرائقَ في تربية الأبناء، وعلمتَ أهمَّ الاحتياجات والمخاطر وما يمكن غرسه تربوياً في الأبناء؛ اعلم أنه لا حول لك ولا قوة إلا بالله، فالجأ إليه واضرع وسَلْهُ صلاحَ أولادك ونجابتَهم.
أيها الإخوة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا دعوة أبي إبراهيم» [مستدرك
الحاكم] يقصد صلى الله عليه وسلم دعاءَ سيدنا إبراهيم {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129].
وذكرتْ كتبُ التراجم عن إبراهيم بن أدهم العابد الثقة، لما حملتْ أمُّه به دعا أبوه
العلماءَ الصلحاءَ وعملَ لهم طعاماً، فلما فرغوا من أكله قال لهم: هبوا لي دعوةً أنْ يرزقَني اللهُ ولداً صالحاً، فإنّ امرأتي حبلى، فدعوا له فكان أنْ رزقَه اللهُ إبراهيمَ.
وإنّي وجدتُ في القرآن الكريم دعاءَ الوالد لولده مستجاباً، فها هي زوجة عمران تدعو لابنتها فيجيب اللهُ دعاءَها : { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ
مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ
وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا
رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران: ٣٥-٣٦]
ويدعو سيدنا زكريا بالذرية الطيبة فيستجيب الله له : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ
رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ
قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 38، 39]
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثُ دعوات مستجاباتٌ لا شكَّ
فيهنّ: دعوةُ المظلوم، ودعوةُ المسافر، ودعوةُ الوالد على ولده» [أحمد وأبو داود].
بالأمس دُعيتُ لإلقاء كلمة في قاعة رئاسة جامعة دمشق على بعض طلاب
الكليات الطبية، يريدونني أنْ أتحدث مع بعض الزملاء عن سر نجاحنا وطريقه،
فقلت للحاضرين: ما أنا إلا دعوة أمي، ورزق حلال أطعمنيه أبي، وهمة نفخها فيّ شيخي ومعلمي.
إنني لا أذكر يوماً إلا وأنا أرى والدتي على سجادة صلاتها أو بين يدي قرآنها
تدعو لأولادها، وربما جعلتْ صورهم أو أسماءهم علامات تعلِّم فيها أين وصلت في القراءة من مصحفها، تتذكرهم في الدعاء.
إنَّ للدعاء أثراً كبيراً في حياة المسلم عامةً، وإنَّ لدعاء الوالدين أثراً كبيراً في صلاح الأبناء وتوفيقهم خاصةً؛ ذلك أنَّ دعوةَ الأب والأم لولدهما مستجابةٌ.
فكم رَدَّ الدعاءُ من شارد، وكم قَرَّبَ الدعاءُ من بعيد، وكم أصلحَ دعاءُ الوالدين من فساد الأبناء...!!
قال أحدُ العلماء: كنتُ في سفر، وكانت تأتيني من أصحابي رسائلُ وكتبٌ، وكنت أحبُّ رسالةَ أحدهم وأنتظرُها، قيل له: لمَ؟ قال: لأنه كان يُصَدِّر كتابه بقوله: أصلَحَنِي اللهُ وإياك بما أصلح عبادَه الصالحين, فإنه هو الذي أصلحهم.
فلم يصلح الصالحين ذكاؤُهم, ولا غِناهُم, ولا قوَّتُهم، وإنما أصلحَهم الله، فإذا أردت لأولادك الصلاحَ فسَلْ مُصِلحَ الصالحين أن يُصلِحهم.
حدَّثني طبيبٌ أستاذ جامعي من عائلة علم ودين: له أخٌ على غيرِ مِنْوال العائلة، سيّئُ الأخلاق، سيّئُ العشرة، بعيدٌ عن بيوت الله، بعيدٌ عن الأدب، يقول الأخ
الطبيب: أعيانا إصلاحُه، وأضنانا رَشَادُه، لم يستجِبْ لنا في ترغيب ولا ترهيب، لا في عُنفٍ ولا في لُطف، فما كان من أبي إلا أن ذهب إلى العمرة وكنتُ معه، فرأيتُه متعلِّقاً بأستار الكعبة حيناً، وبالملتَزَم حيناً آخر، رافعاً يديه نحو السماء، مستَسْلِماً لله تعالى، ينادي ويجأرُ بالدعاء، ودموعُه تغسل وجهَه، يقول:
إلهي وسيدي.. ولدي فلان, أريدُهُ منك..
إلهي وسيدي.. ولدي فلان, أريده منك..
أريد سعادتـَه وصلاحَه في الدنيا وفي الآخرة..
يقول الطبيب: وظلَّ أبي يُكثِرُ الدعاءَ لأخي، ثم رجعنا إلى الشام، فما كان منَّا بعد
أسابيع, إلا أن رأينا أخي يخلو بنفسه في غرفته الخاصة, يمكث وقتاً, ثم يخرج
، فتتبَّعناه لنرى ما يفعل، وإذا به يصلي خالياً وحده, ثم ساق اللهُ له صديقاً دلّه على مجالس العلم والصلاح، وسار أخي بعدها في درب الصالحين.
إنه أثر الالتجاء إلى الله في صلاح الأبناء وتربيتهم.
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو لابنته فاطمة، ولزوجها علي، يقول: «اللهم بارِكْ فيهما، وبارك عَلَيْهما، وبارِكْ لهما في نسلهما» [الطبراني] وكان يدعو للحسن والحسين: «اللهُمَّ إني أُحبُّهما فأحبَّهما, وأَحِبَّ مَن يُحِبُّهُما» [الطبراني] .
ودعا صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن العباس- وكان طفلاً- فقال: «اللهمَّ فقِّهْهُ في الدين، وَعَلّمه التأويل» [ أحمد] فصار عبدُ الله عالِمَ هذه الأمة.
ودعا لسيدنا أنس صلى الله عليه وسلم -وكان ولداً- فقال: «اللهمَّ أكثِرْ مالَهُ وولدَه, وبارِكْ له فيما أعطيته»[ أحمد] يقول أنس: فواللهِ إنَّ مالي لكثير، وإن
ولدي وولد ولدي ليتعادُّون على نحو المائة -عنده من الأولاد والأحفاد ما يساوي
المائة-, وكان له بستانٌ يحمِلُ في السنة الفاكهةَ مرتين, بِبَرَكَة دعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي ختام هذه الخطبة المطلوب من كل والد ثلاثة أمور:
أولها: أكثر من الالتجاء إلى الله تعالى في أن يصلح أبناءك.
وثانيها: أسمع أبناءك صوت دعائك لهم.
وثالثها: احذر أن تدعو عليهم ،فإن دعاءك عليهم شقاءٌ لهم, وشقاؤهم لا يسرُّك.
جاء رجلٌ إلى عبد الله بن المبارك يشكو له عقوقَ ولده، قال له عبد الله: أكُنْتَ تدعو عليه؟ قال: نعم, قال: أنت أفسَدْتَه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم, ولا تدعوا على
أولادكم, ولا تدعوا على أموالكم, ولا تدعو على خدمكم, لا توافقوا من الله ساعةَ نيلٍ فيستجيب لكم» [مسلم].
والمطلوب منكم أيّها الأبناء أنْ تجتهدوا بإدخال السرور على آبائكم وأمهاتكم لتنالوا رضاهم ودعاهم فتسعدوا في الدنيا والآخرة.
وأختم السلسلة بدعاء القرآن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ
وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] . { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي
أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [الأحقاف: 15]
والحمد لله رب العالمين