قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ

   وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]

قال سيدنا عليّ رضي الله عنه: (قوا أهليكم نَارًا علّموهم وأدّبوهم) .

أخرج الترمذي بإسناد مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا نَحَلَ

وَالِدٌ وَلَدًا أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ).

أيها الإخوة:

كلُّ عامٍ وأنتم بخير، ونسألُ اللهَ أنْ يُعجّل للعباد بالفرج وأن يجعله محفوفاً بلطفه .

نعودُ إلى سلسلةِ تربية الأبناء وقد اقتربت من نهايتها، وهذه الخطبة السابعة والعشرون منها، ونحن نعتقد أنّ الحياةَ الزوجيةَ محرابٌ من محاريب العبادة، وتربية الأبناء بابٌ من أبواب القرب إلى الله تعالى، ولهذا جاءت سلسلة– تربية الأبناء- لعلنا نفيد منها جميعاً في زيادة قربنا إلى الله ببرّنا بأبنائنا ورعايتنا لهم.

عنوان خطبة اليوم: تربية أبناء الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين - 1-

 وتتحدث خطبة اليوم عن أهم احتياجات المرحلة، وقبل الحديث عن أهم احتياجات المرحلة أعودُ لأُذكّر:

تُرى هل بقي الشابُ والفتاةُ في هذه المرحلة العمرية وما بعدها محتاجين للتربية؟ ألم يَصرْ رجلا ًكاملاً؟ ألم تَصرْ امرأةً كاملةً؟ فهل ما زال وما زالتْ محتاجَيْن للتربية ؟!

وسبق الجواب: ما دام الإنسانُ موجوداً على الأرض فهو محتاج للازدياد من

الخُلُقِ الرفيع، ما دام المرءُ حيّاً فهو محتاجٌ إلى الازدياد من العلم ومن الأدب

ومن التربية، ومن قال إني عالمٌ فقد جَهِل، ومن ظنّ أنّ تربيتَه تمّتْ فقد نَقَصَتْ، ورحمَ اللهُ الإمامَ الشافعيَّ عندما قال:

    ومن هنا، اعلموا – أيّها الشبابُ وأيّتُها الفتياتُ- ما دام فيكم قلبٌ يخفِقُ

ونَفَسٌ يتردد؛ فلا تتوقفوا عن التحصيل العلمي، ولا تتوقفوا عن الترقي في الخُلُق، ولا تتوقفوا عن الازدياد من التربية والأدب، ومَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي زِيَادَةٍ فَهُوَ فِي نقصان.

أهمُّ احتياجاتِ شبابِ الثانية والعشرين والثالثة والعشرين والرابعة والعشرين العمل المناسب.

والمناسب هو ما جمع ثلاث صفات: ما كان حلالاً، وما كان متوائماً مع اختصاصه أو ميوله، وما كان مردوده المادي كافياً.

أيها الإخوة، أيها الشباب:

في آخر دراسةٍ أُجرِيَتْ عن سوق العمل في سورية قبل الأزمة، تمَّ مسحُ ثلاثينَ ألفِ أسرةٍ لدراسةِ عرض قوة العمل، ومسحُ أكثر من ألفٍ ومائتي مؤسسةٍ من القطاع الخاص لدراسة الطلب على قوة العمل.

وفي هذه الدراسة فوائدٌ كثيرةٌ، أذكر منها فائدتين:

-    دراسة المهارة والنقص في المهارة.

-    دراسة الشواغر والشواغر صعبة المِلء.

دراسة المهارة والنقص في المهارة: أرادوا فيها دراسة العمَّالِ المهَرة

الموجودين على رأس عملهم، والعمالِ غير الماهرين الموجودين على رأس العمل.

ووجدت الدراسةُ أن معدَّل فجوةِ المهارة 16% أي أنّ حوالي عامل من بين

ستةِ عمالٍ لا يمتلك المهاراتِ اللازمةَ لقيامه بأعماله، وتوجد تلك الفجوة في مختلف فئاتِ منشآت العمل المدروسة الصناعية منها أو الزراعية أو الخدمية أو

المالية والعقارية.

وأوضحت إحصاءات الدراسة أنّ أهم مجالات المهارات المطلوب تحسينها هي

المهارات الاختصاصية الفنية، وبعض المهارات العامة؛ كإتقان اللغة الأجنبية،

أو مهارات التواصل وحل المشكلات، أو مهارة العمل ضمن فريق أو تقنيات الحاسب.

وفي هذه الدراسة رسالة لشبابنا أنْ يعملوا على أنفسهم بتحصيل هذه المهارات

لتزداد فرصهم في سوق العمل.

دراسة الشواغر والشواغر صعبة الملء : أرادوا فيها شواغرَ العمل التي تَبحثُ

عن عاملين، والشواغر النوعية في المنشآت، أظهرت الدراسةُ أنَّ هناك شواغرَ

صعبةَ الملءِ تبحث عن عاملين بمهارات عالية، وأنّ 57 % من الشواغر هي

من هذا النوع، فالمنشأةُ تستغرقُ وقتاً طويلاً لإيجاد العامل المناسب لهذا

الشاغر، وربما ذهبتْ لتدريب عمالها الحاليين أو القبول بمؤهلاتٍ أقل، الأمر

الذي يُعيقُ توسُّعَ عمل المنشآت. علماً بأنَّ المنشآتِ مستعدةٌ لدفع راتبٍ شهريٍّ مجزي عند توفُّرِ الأكفاء.

 وفي هذا رسالة أخرى لشبابنا لرفع سويّة مهاراتهم وكفاءاتهم.

أيها الإخوة:

بين يدي كتاب أراه نافعاً، اسمه (أسواقنا التجارية لمحدثكم محمد خير الشعال)

تحدثتُ فيه عن العمل وبعضِ أحكامه وأخلاقياته، وكيف تبحث عن عمل وكيف تقدم سيرتك الذاتية، وأختار لكم منه:

(ورد ذكر العمل واشتقاقاته في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمائة مرة! ولعل أكثرَ

 ثلاثِ مصطلحاتٍ تعترضك وأنت تقرأ القرآن الكريم هي (الإيمان، والعلم، والعمل)

وقد حدَّث رسولُ الله أصحابَه كثيراً عن العمل، ودفعهم إليه، فكان يقول لهم:

«مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» [البخاري].

«لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ

بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاس أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» [البخاري].ش

«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً أَوْ يَزْرَعُ زَرْعاً فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ

إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» [متفق عليه]

«خَيْرُ الْكَسْبِ كَسْبُ يَدِ الْعَامِلِ إِذَا نَصَحَ» [مسند أحمد]

وعملَ النَّبي في التجارة، وعملَ في رعي الغنم، وعملَ في بناء المسجد، وعملَ في حفر الخندق، وعمل في مهنة عياله .

وأنتجتْ تربيةُ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم جيلاً من الصحابة يعمَلون ويتعلَّمون،

 فتُحدّثُنا كتبُ التراجم والسير: (كان أبو بكر بزازاً -يعني تاجر قماش-، وكان

 سعد بن أبي وقاص يبري النبل، وكان عمرو بن العاص جزاراً، وكان أبو سفيان

تاجر زيت وجلود، وكان عثمان بن عفان تاجراً، وكان علي بن أبي طالب

عاملاً... رضي الله عنهم أجمعين، وكان سيِّدنا عمر بن الخطاب يقول: (إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفة؟، فإن قالوا: لا، سقط من عيني)

-    ذَكَرَت كتب التاريخ أن العرب المسلمين أدخلوا أول شجرة نخيل إلى أوربا،

 وأدخلوا إليها أيضاً زراعة القطن، وقصب السكر، والفستق الحلبي، وتذكر

معاجم اللغة كلمات عربية زراعية دخلت إلى اللغات الأوربية، ولازالت تستعمل

إلى اليوم، أصلها عربي، لكن الأوربيين لازالوا يستعملونها إلى اليوم، ومن هذه الكلمات: (السكر، القطن، عصير الليمون، الرز، نبات الأرضي شوكي) .

وأختمُ الخطبةَ بكلمتين، أُقدّمُ الأُولى للشباب الباحثين عن العمل، والثانية لكُلّ صاحبِ قرارٍ يستطيع عونَ شبابنا على العمل:

الكلمة الأولى للشباب: إن كنت باحثاً عن عملٍ فكن جاداً مجتهداً في بحثك، وقدِّم

سيرتك الذاتية بشكل صحيح، وينفعُ في معرفتك للجديّة في البحث عن العمل

والتقديم الصحيح لسيرتك الذاتية أنْ ترجعَ إلى الكتاب المذكور (أسواقنا التجارية) لتقرأَ فيه عن الأمرين بشكل عملي ومبسط.

 وإنْ كنت عاملاً فحافظ على نعمة العمل بإتقانه فإنّ النعمَ التي لا تُشكرُ تذهب.

الكلمة الثانية لأصحاب القرار والأعمال: تثبت دراسات سوق العمل أنّ شبابَنا

بشكل عام يحبون العمل والنشاط، وأنّ الشبابَ السوريّ يظهر استعداداً للمرونة في جهودهم لتلبية احتياجات البلد للعمالة،

 فعند سؤالهم عما يرغبون في عمله إذا صاروا عاطلين عن العمل – كما جاء

في مؤشر صلتك المنشور عام 2010- قال 59% منهم إنهم سيقبلون وظيفة

دون مستوى مهاراتهم، وقالت نسبة مقاربة إنهم على استعداد للتأهل لمجال

عمل مختلف،  بينما قال آخرون إنهم قادرون على إنشاء أعمال خاصة إذا وجدوا من يعينهم.

 فبإمكان كلّ صاحب قرار وأعمال مساعدة شبابنا على العمل بتقديم برامج التمويل الصغير لهم، وبالدعم المالي المباشر، وبتقديم الحوافز لدعم المتميزين والمبدعين، وبالموائمة بين البرامج التعليمية واحتياجات سوق العمل.

أيُّها الإخوة:

كان من دعاء سيِّدنا محمَّد : «اللَّهم ارزقنا من فضلك، ولا تحرمنا رزقك، وبارك

 لنا فيما رزقتنا، واجعل غنانا في أنفسنا، واجعل رغبتنا فيما عندك» [مصنف ابن أبي شيبة، بإسناد ضعيف]

ونحن نتأسى به صلى الله عليه وسلم فندعو: اللَّهم ارزق شبابنا من فضلك، ولا تحرمهم من رزقك، وبارك لهم فيما رزقتهم، واجعل غناهم في أنفسهم، واجعل رغبتهم فيما عندك.

قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسؤْولٌ عن رَعِيَّتِهِ، فالإمامُ رَاعٍ، ومَسْؤولٌ عَن رَعِيَّتِهِ، والرجلُ رَاعٍ في أهله، وهو مَسؤولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمرأَةُ في بَيْتِ زَوجِها رَاعيةٌ، وهي مَسؤولَةٌ عن رَعيَّتِها،...والرجلُ في مالِ أبيهِ راعٍ، ومَسْؤولٌ عن رعيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وكُلُّكُم مَسؤولٌ عن رعيَّتِهِ» [البخاري ومسلم] . 

والحمد لله رب العالمين