بتاريخ: 9 من المحرم 1439 هـ - 29 من أيلول 2017 م
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.
عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.
يقول المولى جل جلاله في محكم التنزيل: )وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ( [الحشر: 10].
معاشر السادة: الدين يأمر برفع الشقاق والتنازع، وبالاعتصام بحبل الوَحدة، وهذا معنى قوله سبحانه: )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا( [آل عمران: 103].
إن مِن أنكر الأمور افتعال الأسباب لتفريق الكلمة وتمزيق الأمة، ربما اختلفت وجهات النظر في قضية ما وانشعب الناس حولها مذاهب، لكن حيث لا تختلف الأفهام ولا تتعدد الأنظار، كيف يستبيح بعض الناس لأنفسهم أن يخلقوا الفرقة خلقاً، وأن يقحموها على الواقع إقحاماً، لا لشيء إلا لرؤية الناس أحزاباً متناحرة وطوائف متدابرة.
في أول نصر للمسلمين قال الله لهم: )فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَصلِحوا ذاتَ بَينِكُم( [الأنفال: 1]، ثم قيل لهم في توكيد أسباب النصر: )وَأَطيعُوا اللَّـهَ وَرَسولَهُ وَلا تَنازَعوا فَتَفشَلوا وَتَذهَبَ ريحُكُم وَاصبِروا إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصّابِرينَ( [الأنفال: 46].
إن أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بنى المسجد وآخى بين المهاجرين والأنصار، وقامت تلك الأخوة على المحبة والصدق والإخلاص والإيثار والتفاني، فكانوا رحماء بينهم أشداء على الكفار، وقد امتدحهم الله بقوله سبحانه: )مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ( [الفتح: 29].
لما عرف المسلمون الأوائل معنى الأخوة وتمسكوا بمبادئها سادوا العالم، وانتشر الإسلام شرقاً وغرباً، ودخل الناس فيه أفواجاً، ولما خالف المسلمون النُّصوص التي تدعوهم إلى الوحدة والمحبة والأخوة تفرقوا وتنازعوا، وحارب بعضهم بعضاً باسم الدين، لأنهم سلكوا مذاهب متفرقة، وراح كل فريق يتعصب لمذهبه، ويُعادي سائر إخوانه المسلمين أو المؤمنين لأجله زاعماً أنه بهذا ينصر الدين، مع أنَّه يخذله بتفريق كلمة المسلمين، فهل جاءهم بهذا أمر من الله ورسوله؟ لا بل كان الحقد والتنازع عندهم انحرافاً عن الطريق المستقيم واتباعاً لخطوات الشيطان.
إنَّك لتأسف عندما تجد بعض مَن يُرسلون الكلام على عواهنه، لا بل بَعض مَن يَسوقون التُّهم جزافاً غير مبالين بعواقبها، دخلوا في ميدان الفِكر الإسلامي بهذه الأخلاق المعلولة، فأساؤوا إلى الإسلام وأمته شر إساءة.
لقد كُنَّا أمة واحدة، وكانت أرضنا أرضاً واحدة، فيجب أن نعود كما كُنَّا، وأن نُزِيح كل العوائق التي تُعَكِّرُ صَفونا وتُمزق أخوتنا.
إنَّ بَقاءنا متفرقين هو ذريعة الفتك بنا وبرسالتنا وحاضرنا ومستقبلنا، فلنسارع إلى جمع الشمل وتوحيد الكلمة.
وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا تجد الكثيرين مِن أعداء هذه الأمة يقولون عندما يرون أفراداً أو جماعات أو دولاً أو حكومات تعمل مِن أجل إصلاح ذات البين ومِن أجل جمع شمل الأمة: إنَّ هؤلاء يَعملون هكذا لأن بَينهم مصالح مشتركة.
إن المصالح المشتركة قائمة بين الدول والشعوب منذ زمن طويل، ولكن شَتَّان بين مصالح تشترك وتتفق على الاحتلال والاعتداء ونهب ثروات الشعوب وخيراتها، وبين مَصالح تَرفض رَفضاً تاماً التَّطاول على سِيادة الدول ووحدة أراضيها.
المصالح المشتركة هي بَاعث معقول على ائتلاف الناس وتكوين المجتمعات، وهذا الباعث مَظهر لعاطفة التَّعاون وغريزة المجتمع، فإن الإنسان بطبيعة خلقه يَصدف عن العيش وحده، ولو رغب في العزلة ما استطاع لحاجته الماسة إلى خدمة الآخرين، ويُؤكد هذه الحقيقة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً))، فإذا برزت عدة مصالح مُهمة بين قبيل من الناس مهدت لإقامة وحدة بينهم يشعر كل فرد أنَّه مسؤول عن رعايتها، وعلى قدر ما في هذه المصالح مِن خَطر ووزن يَكون الحرص على استدامتها والدفاع عنها، والعرب مِن قَديم كانوا ينخلعون مِن أثرتهم ويفنون في القبيلة التي تمثل مصالحهم المادية والأدبية، وقد بَلغ مِن شِدة الذَوبان في الكِيان العام أن كانت القبيلة كلها تَغرم ما يجني المنتسب إليها، وتشترك في دَفع الدِّية عنه، وقد ذهب عهد القبيلة كما انقضى عصر العصبيات الصغيرة، ومنذ أن احتضن العَرب رسالة الإسلام وانتشرت جُموعهم في بقاع شتى دَخلت مصالحهم الجامعة في طور جديد، طور يفرض عليهم وحدة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية تلم شملهم وتحمي عقيدتهم ووجودهم، والأجزاء التي يَتكون منها الوطن العربي يكمل بعضها بعضاً، كأنها ملامح وجه ما تجملت قسماته إلا باستوائها، أو مشاعر جسم وأعضائه فما يستطيع السعي ولا الحس إلا بتعاونها وائتلافها، وعندما قَطَّع الغرب هذه الأمة أمماً، فَرَّق بين اليد وأختها، فما تستطيع أحدهما أن تُصَفِّق، وباعد بين السَّمع والبصر والقلب جميعاً، فكان هذا التَّمزيق إبطالاً لكل مصلحة مرتقبة، ثم كان بعد إحباطاً لأي جُهد يمكن بذله لإنجاح رسالتنا وصيانة حقوقنا.
يجب على الأمة العربية والإسلامية أن تُدرك أن الوطن العربي كُلَّه جسد واحد، لا سيما مِن الناحية العسكرية، فاحتلال ليبيا يُهَدِّد بلاد المغرب كلها، ووادي النيل واحتلال فلسطين يُهَدِّد دمشق وبغداد ومكة والمدينة.
نحن العرب ننتشر فوق رقعة هائلة مِن الأرض، تعد أخطر بقاع الدنيا، إنَّ أحشاء العالم كله في أيدينا، ومفاتيح بره وجوه في قبضتنا، وفرص الاتصال بجماهير البشر أيسر ما تَكون لنا وحدنا، وحاجة الأقطار الأخرى إلينا أشد مِن حاجتنا إليهم، وتلك كلها ميزات يسألنا الله عنها، ماذا استفدنا منها؟ وكيف تصرفنا فيها؟ وكم نفعنا الإنسانية برسالتنا في موقع نَشرف منه على أرجاء العالمين.
إن الأوضاع القائمة -يا سادة- هي النتائج التي توصلت إليها سياسة الغرب، كي تُفسد علينا حياتنا، وتحول بيننا وبين رسالتنا، وهي أوضاع لا يمارى في ضرورة الانتهاء منها، والمصالح المشتركة تُعتبر دوافع مادية تافهة بل وضيعة أحياناً إذا لم تكن مصحوبة بهدف سامٍ تسخر له وتدرك به، ولذلك نجد القرآن قد أشاد بهذه المصالح عندما يكون هدفها نشر السلام ومحاربة الإثم والعدوان، حيث قال سبحانه: )وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( [المائدة: 2]، فالإسلام هو الحبل الذي يَحزم تلك المصالح، ويحدو الجماهير في كل بلد كي تعمل لها وتستفيد منها.
لقد تبين للعالم أجمع أنَّ المصالح الإيرانية الرُّوسية السورية المشتركة تَصُبُّ جميعها في مصلحة الشرق والغرب، وذلك مِن خلال مُكافحة الإرهاب الذي بات يُهَدِّد العالم أجمع، وإنَّ قادة العالم قديماً وحديثاً يُقِرُّون بالمصالح المشتركة بين الدول، لما لها من أثر كبير في إرساء الأمن والسلم الدولي، فإن الفرنسي "جورج كليمنصو" قال: ]إنَّ أقوى الدول وأفضلها هي التي تُثبت يقظتها وحسن استعدادها للدفاع عن نفسها ضد كل مكروه يوجَّه إليها، والتي تكون قادرة على معاونة صديقها إذا ما ابتلي بمحنة، لأن ذلك الصديق سَيُلَبِّي نِداءها إذا استنجدت به لتتجاوب مع شعورها[.
يا سادة: إنَّ العقلاء والمفكرين في العالم اليوم أصبحوا يَقولون: إن مِن مصلحة سورية أن يبقى العراق مُوَحَّداً، وإن مِن مصلحة تركيا أن تبقى سورية مُوَحَّدة، ومِن مصلحة العالم أجمع أن تتوجه الجهود كلها إلى زرع السلام في الأرض، واقتلاع جذور الحقد والغطرسة والجبروت من نفوس الحاقدين المجرمين.
يا سادة: الهجرة عَلَّمتنا دروساً جليلة وعظيمة، فهي مَنارة للأجيال إلى قِيام السَّاعة، الهجرة علمتنا أن نَكون مُتآخين، أن نكون يداً واحدة، أن نكون صابرين جميعاً على البأساء والضراء، أن نكون مُتفانين جميعاً في خدمة بعضنا البعض.
لله در الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عندما قال:
إِنَّ أخاكَ الحَقَّ مَن كانَ مَعَك *** وَمَن يَضُرُّ نَفسَهُ لِيَنفَعَك
وَمَن إِذَا رَيبَ الزَّمَانُ صَدَعَك *** شَتَّتَ فِيكَ شَملَهُ لِيَجمَعَك
هذه هي الأخوة الحقيقية التي تمثلت بالرِّجال العظماء، وبالرعيل الأول الذين رَبَّاهم النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم، مِن أجل ذلك سادوا العالم كله، وفرضوا كلمتهم على الأرض بكل حب واحترام، واليوم ما أحوج الأمة العربية والإسلامية في ظِلِّ الظروف القاسية وفي ظل المؤامرات التي تتعرض لها هذه الأمة مِن الكيان الصهيوني ومِن السياسة الأمريكية والغربية بشكل عام، ما أحوجها أن تعود إلى منهجها الذي رسمه لها ربها جل جلاله، والذي هداها إليه النَّبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم، ولنعلم أن الأخوة والمحبة والتفاني، هو الطريق الوحيد للقوة، هو الطريق الوحيد للعظمة، هو الطريق الوحيد للدفاع عن الأرض والعرض، وإنَّنا نقول بفضل الله جل جلاله: إنَّ محبة الشعب العربي السوري لبعضه البعض كان لها الأثر الكبير في صمود هذا الوطن، عندما أحب ابن دمشق ابن جبل العرب، وعندما أحب ابن الساحل ابن دمشق، وعندما أحبت حمص مدينة اللاذقية مدينة العرب محافظة اللاذقية، وعندما تواصل الأبناء جميعاً أبناء هذا الوطن مع بعضهم البعض، وتماسكوا وتفانوا في خدمة بعضهم، وأدركوا أنه لا طائفية في هذا الوطن، لا عنصرية ولا مذهبية، يجمعنا دين الله جل جلاله تحت راية علم الجمهورية العربية السورية، هذا هو السِّرُّ في صمود هذا الوطن، ولو كان هُناك طائفية كما يَدَّعِي الكاذبون والمنافقون والمروجون والطابور الخامس لما رأيت وطناً مُنذ الأيام الأولى، منذ الحرب الغادرة الغاشمة على هذا الوطن الحبيب.
سألتني مَرَّة صحفية أمريكية في عام ألفين وأربعة عشر في هذا المسجد، قالت لي: لماذا أنتم تشعرون أنَّكم ستنتصرون مع أن الحرب الأهلية تمزق كيانكم وتُفَرِّق شملكم وجمعكم؟ فقلت لها: إنَّ سُؤالَكِ مِن أصله باطل، لأنَّه لو كان عندنا طائفية لما استطعنا الآن أن نقف على منبر مسجد بني أمية في دمشق، ولما استطعتِ أنتِ أن تأتي إلى دمشق قلب العروبة والإسلام، لكنكم أنتم الأمريكيون مُشكلتكم أنَّكم تكذبون على أنفسكم ثم تُصَدِّقون، إذا كُنتِ تظنين أن هناك حرباً طائفية حرباً أهلية كما تُسمينها في سورية فتجولي في مدينة دمشق، واخرجي أنتِ بالنتيجة وانقليها أنت على لسانك إلى سياسة بلادك، فنحن هنا أبناء وطن واحد، لا نعرف طائفية ولا نعرف مذهبية، نعرف الأخوة ونعرف المحبة، ونعرف الاحترام المبادل، نعرف أن شيئاً واحداً يجب علينا أن نجتمع جميعاً مِن أجله هو صيانة تراب هذا الوطن.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.
الخطـــــــــــــــبة الثانيــــــــــــــــــــــــــة:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله, اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله اتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، وأن الله غير غافل عنكم ولا ساه.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارحمنا فإنك بنا رحيم، ولا تعذبنا فإنك علينا قدير, اللهم ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك, ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً, اللهم إنا نسألك أن تنصرَ رِجالك رجال الجيش العربي السوري, وأن تَكون لهم مُعيناً وناصراً في السهول والجبال والوديان, وأن تثبت الأرض تحت أقدامهم، وأن تُسدد أهدافهم ورميهم يا رب العالمين, اللهم إنا نسألك أن تنصر المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله, وأن تُسدد أهدافهم ورميهم يا رب العالمين, اللهم وفق القائد المؤمن والجندي الأول بشار الأسد إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وخُذ بيده إلى ما تحبه وترضاه, واجعله بشارة خير ونصر للأمة العربية والإسلامية, )سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(.