بتاريخ: 3 من ذي الحجة 1438 هـ - 25 من آب 2017 م
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.
عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.
يقول المولى جل جلاله في محكم التنزيل: )هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ([الملك: 15].
معاشر السادة: مِن أقسى المطاعن التي وُجِّهت إلى الإسلام في صميمه ونالت منه في هذا العصر شَرَّ مَنالٍ أنَّه: عدو لدود للعمران البشري، وعقبة كؤود أمام النشاط الإنساني، وسِجن مُطبق السدود للغرائز المهتاجة والعواطف الجياشة والأفكار الحرة المحلقة في طباق الأرض والسماء، مع أن هذه كلها وقود الحياة المنطلقة في طريقها، والسائق الحادي للقافلة البشرية كيما تملأ البر والبحر زحاماً وتجديداً وبناءً وتعميراً، وهذه التُّهمة معرة تلتصق بتدين الرسوم والطقوس، وبالتعبد الذي يبني مبادئه الأولى للفطرة وتزييف اتجاهاتها وتزوير نزعاتها، وقد نفى الإسلام عن نفسه في حرارة وحماسة هذه الادعاءات الباطلة، وأهان مَن يتدخلون في السُّلوك الإنساني لِيُحلوا منه ما شاؤوا ويُحرموا منه ما شاؤوا، حيث قال سبحانه: )وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هـذا حَلالٌ وَهـذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّـهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّـهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ ( [النحل: 166].
بل إنَّ الإسلام اعترف بالغرائز الإنسانية اعترافاً كاملاً، وواجه بها الحياة مواجهة قوية، وقَدَّر المدى الحيوي الذي يَحتاجه كل فرد، ثم منحه إياه ولم يبتر من الطبيعة الأصيلة النفس عرقاً، غاية ما صنع أنه تدخل في المظهر السلوكي لهذه الغرائز، فنهج به المنهج الذي أقره علم النفس الحديث، منهج التسامي بالنزعات السَّاذجة، واستبدال ما هو خير بالذي هو أدنى، ومِن هُنا أحلَّ الطيبات كلها، يغرف الإنسان منها ويرتوي حتى يُشبع نهمته، ووطأ للناس ما في الأرض جميعاً ينتفعون منه قَدرَ طَاقتهم، بل وَزَّعَ الكواكب في السماء يَستريح إليها طرف الإنسان إذا شاء الرَّاحة والأنس، وإلى ذلك أشار القرآن بقوله سبحانه: )وَلَقَد جَعَلنا فِي السَّماءِ بُروجًا وَزَيَّنّاها لِلنّاظِرينَ ([الحجر: 16].
فالإسلام جعل: للجسد حقاً، وللعين حقاً، وللأهل حقاً، وللجار حقاً، وللضيف حقاً، وأوصى أن يُعطى كل ذي حق حقه، ولم يَجعل الإسلام التَّمكين في الدنيا والاستخلاف في الأرض أمراً تافهاً تُدركه الشعوب الهزيلة أو الأمم التي لا قُدرة لها على التعمير ولا كفاية لديها للإجادة والتنظيم، لا، فليس يُرشح للسيادة في الأرض إلا الصالحون، للوصول بالإنسان إلى مكانته العظمى فوقها، وإلى هذه السيادة أشار القرآن بقوله سبحانه: )وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَـذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ( [الأنبياء: 105-106].
ولما أصبحت شؤون الدنيا لا تَزن عند المسلمين جناح بعوضة، أصبحوا في نظر العالم هم شعوباً لا يزنون جناح بعوضة، ولما فاتهم السَّبق فيها وأعجزهم النُّبوغ في علومها وفنونها أفلت الزمام من أيديهم، وأضحت سياسة العالم تدور بعيدة عنهم، بل تدور للمكر بهم والكيد لهم.
إنَّ الإسلام يَكره أن تأتي الدنيا للإنسان من طريق الحرام، ويكره إذا جاءته أن يُسخرها في خسائس الأمور ومحاقرها، لكنه يَطلب طلباً حاسماً أن يُقبل عليها من أبوابها المشروعة، ولأمر ما ارتفع الإسلام بالتجار الذين يكسبون الحياة ويحوزون الدنيا مِن هذه الأبواب، حتى سَلكهم مع النبيين والصديقين والشهداء، فقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التَّاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء))، كما ارتفع بالفلاحين الذين يَشقون الأرض، فجعل الزرع الذي يأكل منه الناس والدواب والطيور صدقة ماضية الأجر إلى يوم القيامة، فقد روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة)).
وهكذا يعمل المؤمن للحياة ما دام حياً، فتتصل به وبغيره مواكب العمران، وتعتز به وبجهده حقائق الإيمان، فالإسلام دين عمل متواصل وكدح طويل، وليس الإسلام هو الذي يُهمل أمر الأرض ويترك كنوزها دفينة لا ينتفع بها أحد، أو يترك أتباعه هملاً لا يَصلحون لشيء، كيف ونبي الإسلام قد احترف العمل الذي كان يؤديه سواد الناس على عهده، ففي البادية الخشنة قام برعي الأغنام أجيراً لأهل مكة، وإخوانه الأنبياء كانوا أصحاب حِرَف يَرتزقون منها، كان فيهم النجار والحداد والبناء، وأصحابه الذين حملوا شريعته وبلغوا من بعده رسالته كانوا ذوي جد ملحوظ ويسار ظاهر من نشاطهم في ميادين المال والأعمال، ونبوغ المسلمين الاقتصادي هو الذي عكر على اليهود مستقرهم بالمدينة، وجعل الأسواق تفيض بعزمهم وخبرتهم، ولو كان هؤلاء الأصحاب بيننا في هذا العصر لما تجاوزت أزمة الحياة الصناعية والتجارية أيديهم اللبقة، ولرأيناهم في المدائن والقرى آيات من الدأب والكفاح والنجاح، ولم تكن تقوى الله في عصور الفهم والإدراك علامة على السَّذاجة والعجز والفراغ كما هي الآن في عصر الانحطاط المادي والمعنوي الذي نتخبط في ظلامته.
إن الأمة الإسلامية والعربية خَارت قواها المادية مُنذ جَهلت دينها، وما يَستهدفه هذا الدين للإنسانية مِن هِدايات وأمجاد.
إنَّ الإسلام يُحملنا صنوفاً شتى من تكاليف الخدمة الاجتماعية والسياسية والعسكرية، يجب أن نُقدمها للعالم الكبير، حتى نمثل بحق عقيدة التوحيد، ونعرض على أعين الناس مبدأ الإيمان بالله واليوم الآخر، ومن المستحيل أن نصل إلى عُشر ذلك مع هذا الجهل الغليظ برسالتنا، ولو علمنا حقائق هذه الرسالة الكبرى فمن المستحيل أن نُسدي لها يداً مع ضئالة إنتاجنا وقلة ثروتنا، وستظل أبواب الثراء مُوصدة حتى تطرقها أيدي العاملين المجدين الساعين إلى خير الدنيا والآخرة، فالإسلام لا يتصور منتسباً له فارغ النفس مِن الجد فارغ اليد مِن العمل، ولا يَقبل أن تدين به أمة مغلوبة على أمرها، يَنزح الأجانب إلى ديارها، فيملؤون جُيوبهم نَضارة، ويخلفون للمواطنين الخانعين فقراً وعاراً، وكأن الإسلام يُريد أن يقول لنا: إن حاجة الدول والشعوب إلى ضخامة الإنتاج وسعة الثراء كحاجة البدن إلى الغذاء الذي يمده بالحرارة ويحفظ عليه الحياة.
يجب علينا أن ندرك أن ضخامة الإنتاج وسعة الثراء لا يتحققان إلا بالعمل الدؤوب والجد والنشاط، قال "هتلر": إنَّ التقدم والحضارة هما نتيجة جهود العبقرية لا نتيجة ثرثرة الأكثرية. وقال "جبران خليل جبران": ليس التَّقدم بتحسين ما كان بل بالسير نحو ما سيكون.
معاشر السادة: إنَّ الجمهورية العربية السورية تَشهد في هذه المرحلة إحياءً واضحاً للوضع الاقتصادي في هذا الوطن الحبيب، فإن إعادة الكثير مِن آبار النفط ومعامل الغاز وتَشغيل العديد مِن المعامل في مدينة حلب الشهباء، كل هذا كان عوناً على دوران عجلة الاقتصاد، وإلى ذلك أشار القائد المؤمن بشار الأسد حفظه الله تعالى ورعاه في كلمته خلال مؤتمر وزارة الخارجية والمغتربين، عندما قال: (إن الاقتصاد بدأ يتعافى ولكن ببطء)، وها هم أبناء هذا الوطن الحبيب يقولون لك: يداً بيد نمضي معك يا قائدنا يا بشار، نحو التقدم والإعمار والازدهار.
تعالوا أيها المسلمون أيها العرب أيها السوريون: لِنَعمر هذا الوطن الحبيب بالاقتصاد المثمر البناء، لنعمره في هذه الأيام المباركة الطاهرة، تعالوا لِنَعمر القلوب المنكسرة بالحب والعطف والحنان.
أيام العشر من ذي الحجة، أيام يُحبها الله جل جلاله، ويحب فيها العمل الصالح، ولا نعلم اليوم عملاً صالحاً أفضل مِن جبر الخواطر، كم هناك مِن قلب مكسور، كم هناك من إنسان يئن في ظلمات الليل ولا يسمع أنينه إلا الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، تعالوا لنجبر قلوب المهجرين، تعالوا لنتراحم، تعالوا لنساعد بعضنا البعض، تعالوا لِنُذلل العقبات الاقتصادية التي تُواجه كل مواطن، تعالوا لِنُدخل الفرحة والسرور والأنس إلى قلوب الأطفال الأبرياء، مَن فاته أن يحج في هذا العام والأعوام التي سبقته مَن فاته أن يَحج إلى بيت الله الحرام بسبب منع النظام السعودي الغاشم له، إنَّ النظام السعودي الوهابي الغاشم قد منع الشُّرفاء مِن الوقوف على جبل الرحمة في عرفات، وإنني أقول: مَن فاته الوقوف على جبل الرحمة في عرفات فليقف على جبل الانتصار والعزة والكبرياء جبل قاسيون، ومَن فاته الطواف والسعي بين الصفا والمروة تعال -أيها المسلم، أيها العربي، أيها السوري- تعال لنسعى جميعاً على بيوت الشهداء والجرحى، لنطوف بينهم وعندهم، فإن الله جل جلاله يُوجد في كل مكان وفي كل زمان، وإذا أردت أن تجد الله فإنك تجده عند بيوت الشهداء والجرحى، تجده عند بيوت أصحاب القلوب المنكسرة، هناك نحج، هناك نطوف، هناك نسعى، وكلنا يعلم أن هارون الرشيد كان خارجاً أو ذاهباً إلى الحج، وعندما استوقف القافلة في الطريق كان معهم طائر ميت، فأمر الجارية أن تُلقي الطير في أماكن القمامة، وفعلت كما أمر هارون الرشيد، وإذا بجارية تخرج من بيتها فتأخذ الطائر، ولما بلغ أمير المؤمنين هارون ذاك الخبر، استغرب وطرق الباب على الجارية، قال لها: لماذا تأخذين هذا الطائر الميت؟ فاستحيت أن تُجيبه، قال: أستحلفك بالله إلا تكلمت، قالت له: والله يا سيدي ليس لنا ما نقتات به إلا ما يُلقى في هذا المكان، فالتفت إلى القافلة وقال: كم معنا مِن النَّفقة تكفينا لرجوعنا، قالوا: أربعون درهماً، قال: ارجعوا وأعطوا الباقي لهذه الجارية، فوالله هذه الصدقة أفضل من حجنا عند الله في هذا العام.
هذا هو ديننا، لماذا نحج حج النافلة في كل عام، وهناك الملايين ليس الألوف هناك الملايين من المشردين، هناك الملايين من العاجزين عن دفع أجار البيت في كل شهر، هناك الملايين عاجزين عن أن يَجبروا قُلوب أطفالهم بفرحة، بمبلغ يسير، بلقمة طبية يُدخلونها عليهم في يوم العيد، فهل يوجد ربنا فقط في مكة والمدينة؟ لا أبداً، الله يوجد عند قلوب أو عند بيوت الفقراء، ويوجد عند قلوب الفقراء والمساكين أيضاً.
مَن أراد العمل الصالح فالعمل الصالح أبوابه مشروعة، ومشرعة اليوم ومفتوحة على مصراعيها، فهلم أيها السوري إلى العمل الصالح، وهلموا أيها الشرفاء المنتصرون، هلموا لنقف جميعاً على جبل قاسيون، لنقول للعالم: ها هي دمشق قد انتصرت، ها هي دمشق قد استعادت مدنها ومحافظاتها، ها هي دمشق قد افتتحت معرضها معرض دمشق الدولي، وأتاها الزوار من كافة أنحاء العالم، ها هو معرض دمشق الدولي يؤمه الآلاف كل يوم من الناس، كل ذلك حتى يدعموا اقتصادهم أولاً، ولكي يُعطوا رسالة للعالم أجمع أن سوريا هي بلد الحياة، وأن دمشق هي مدينة الحياة وليست مدينة الموت، نحن خُلقنا لنحيا، لنحيا أعزة كرماء، لنحيا أعزة شرفاء، لا نساوم ولا نفاوض، حتى نستعيد آخر شبر من هذا الوطن الحبيب.
وتعال أيها السوري لندعو جميعاً لرجال الله رجال الجيش العربي السوري، الذين يُحققون الانتصار يوماً بعد يوم، والذين يُعيدون الأمن والأمان لنا يوماً بعد يوم، ألا يحق لهم أن نَطوف على بيوتهم وأن نسعى بين بيوتهم؟ ألا يحق لهم أن نقف إلى جانبهم وأن ندعمهم، هم أعطونا الأمان ونحن نعطيهم الحب والحنان، هم أعطونا الأمان ونحن نعطي لرجال الله رجال الجيش العربي السوري الحب والحنان.
تعال أيها السوري لنعطف على بعضنا البعض، تعالوا لنتراحم لنتسامح، تعالوا لنكون جابرين للخواطر، فثق تماماً أن الله جل جلاله ما عُبد الله بشيء أحب إليه مِن جبر الخواطر، وها هو قائدنا المؤمن المفدى والزعيم العربي بشار الأسد يَجبر خواطر الشهداء والجرحى وعائلاتهم في هذه الأيام المباركة، يتجول من قرية إلى قرية في قرى محافظة طرطوس الحبيبة، ليقول لنا جميعاً: مَن أراد أن يتمثل بالعمل الصالح هلموا إلى بيوت أولئك الرجال، هلموا إلى بيوت الشهداء والجرحى، هلموا إلى إحياء اقتصادكم، فإن هذا العمل هو قوة لكم وقوة لدينكم.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.
الخطـــــــــــــــبة الثانيــــــــــــــــــــــــــة:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله, اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله اتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، وأن الله غير غافل عنكم ولا ساه.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارحمنا فإنك بنا رحيم، ولا تعذبنا فإنك علينا قدير, اللهم ارحمنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك, ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً, اللهم إنا نَسألك في هذه الأيام المباركة وبقدسيتها وطهارتها أن تنصرَ رِجالك رجال الجيش العربي السوري, وأن تكون لهم مُعيناً وناصراً في السهول والجبال والوديان, اللهم إنا نسألك أن تنصر المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله, وأن تُثَبِّتَ الأرض تحت أقدامهم، وأن تُسدد أهدافهم ورميهم يا رب العالمين, اللهم وفق القائد المؤمن والجندي الأول بشار الأسد إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وخُذ بيده إلى ما تحبه وترضاه, واجعله بشارة خير ونصر للأمة العربية والإسلامية, )سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(.