بتاريخ: 20 من شوال 1438 هـ - 14 من تموز 2017 م
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على نور الهدى محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة ومن اهتدى بهديهم واستن بسنتهم إلى يوم الدين.
عباد الله، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل، واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين.
يقول المولى جل جلاله في محكم التنزيل: )وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ([الفرقان: 74].
معاشر السادة: إن إقامة المجتمع الفاضل القوي لا تكون مِن السطح الخارجي دون إرساء دعائم البناء وإقامة الأساس الذي يُبنى عليه المجتمع، والأسرة هي دعامة المجتمع، وهي الخلية الأولى الحية التي يتكون منها أفراده وتتلاقى فيها خلاياه، والأسرة القائمة على أسس سليمة الصادرة من قيم فاضلة القائمة برسالتها خير قيام هي تلك الأسرة التي يَرى الأب فيها أنَّه راعي البيت والقائم فيه على أمره، وترى الأم أنَّها مَسؤولة عن إدارة شؤون البيت والأبناء، وعن غرس الفضائل الحميدة في نفوس أبنائها، وتربيتهم التربية السليمة، وتنشأتهم النشأة المستقيمة، ويرى الأبناء فيها ما ينبغي عليهم مِن القيام بواجباتهم والنهوض بالحياة، سيراً على الجادة وطموحاً بالمستقبل الزاهر والحياة السعيدة المقبلة عليهم، وهم في أمن نفسي واستقرار أسري، وهدي مِن الإسلام يُؤمنون به ويسعدون بتعاليمه.
إننا حين نرى خلايا المجتمع مُكونة بهذه المثابة، وأن أفراده هي تلك الأسرة ومثيلاتها من الأسر، وهكذا فهو بلا شك مُجتمع فاضل قوي له كرامته وله مهابته، ولما كانت للأسرة أهميتها وكانت النظرة الحقيقية إليها على أنها أساس المجتمع، فقد عنى الإسلام عِناية خاصة بشؤون الأسرة وبكل ما يتعلق بها، من مبادئ تنهض على هداها، كما عنى بما يتصل بها من حقوق وواجبات، وبما لها وما عليها، أما فيما يتصل بها مِن حقوق وواجبات وما يتعلق بها من أحكام وما يتصل بها أيضاً من أحكام، فقد ذكرها ربنا جل جلاله مُفصلة في القرآن الكريم مِن اللحظة الأولى التي يبدأ فيها التفكير في الزواج، حيث قال سبحانه: )وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ( [البقرة: 235]، كان هذا مِن حكمة الله عناية بشؤون الأسرة وما يتصل بها من أحكام وواجبات، حتى لا تكون أحكامها بعد ذلك عُرضة للأهواء والانحراف بها يمنة أو يسرة، وحتى لا يَكون هناك تَقصير في حق مِن الحقوق أو إهمال في واجب من الواجبات، وللأسرة الصالحة طَابعها الخاص الذي تتميز به عن غيرها، ولها سلوكها الذي يُنبئُ عن تمسكها بدينها وتطبيقها لأوامره وسيرها على هداه، وتتضح مَلامح شخصيتها المستقلة مِن سلوكها ومن آدابها وأخلاقها التي تتخلق بها، فهي مُتجملة بالعفة والوقار، ومستقيمة على طريق العقيدة الصحيحة التي تُؤمن بها، وهي بشخصيتها المتميزة لا تحيا تابعة لغيرها ولا ظلاً لسواها من الأسر الأخرى شرقية كانت أو غربية، إنَّها لا تُقلد غيرها تقليداً أعمى، ولكنها تَنهج نهج الحق في بنائها وفي سلوكها، والأسرة والواعية هي التي تُربي أبناءها تربية صحيحة، وتعمل جاهدة على إقامة شعائر دين الله وتطبيق آدابه وأخلاقه، متعودين جميعاً على فعل الخير والتسابق إلى صنائع المعروف، والأسرة العاقلة هي التي تُربي أبناءها تربية بعيدة عن الكذب والخيانة، بعيدة عن التقاليد الوافدة التي تتنافى مع منهج الدين وآدابه وأخلاقه.
لقد اهتم الإسلام ببناء الأسرة، لأنها المجتمع الصغير بل الأمة الصغيرة، فما كان المجتمع إلا مجموعة من الأسر، وما كانت الأمة إلا مجموعة من المجتمعات، فالعناية بالأسرة عناية بالمجتمع وعناية بالأمة بأسرها، إذ أنَّ الأسرة هي اللَّبنة الأولى والأساس الأصيل في بناء الأفراد والجماعات والأمم والشعوب، مِن هنا نجد أن الإسلام حَرِصَ على صيانة الأسرة وحمايتها من التفكك والضياع، فأبعد عنها شبح الطلاق المرعب، لكن الطلاق اليوم أخذ يَشيع في المجتمعات العربية والإسلامية، لأن انحلال المدنية الغربية تَسلل إلينا، وشرعت جراثيمه تدق بعنف الأبواب المغلقة، والنَّجاح الذي صادف الحضارة الغَازية يَعود إلى ضَعف المقاومة وإلى غباء المقاومين، والطلاق شيء بَغيض إلى الله عز وجل، فقد ورد في الحديث الذي رواه أبو داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أبغض الحلال إلى الله الطلاق))، لماذا؟ لأن ضرر الانفصال بين الزوجين يتجاوزهما إلى غيرهما من الأبرياء، فالأولاد هم الضحية أولاً وآخراً، ولله دَرُّ شوقي عندما قال:
ليس اليتيم مَن مات أبواه *** وخلفاه في هم الحياة ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له *** أماً تخلت أو أباً مشغولاً
إنَّ العقلاء والمصلحين في العالم يُدركون خطورة الطلاق، لأنهم يَعلمون أنَّه هَدم للأسرة وضياع للأجيال ودمار للمجتمعات، فالبلدان الغربية مِن قديم كانت وما زالت تُعاني من تفشي الطلاق في مجتمعاتهم، حتى شكى المعنيون بسلامة المجتمع في إنكلترا مِن تفاحش نسبة الطلاق، فقد بلغت نحو ثلاثة وثلاثين بالمائة، كما بلغ الأطفال الذين يَفقدون رعاية الأبوين معاً أربعين بالمائة، وزادت قضايا الحضانة زيادة كبيرة، الأب يُريد الانفراد بأولاده، والأم تريد بعد الطلاق أن يُحرم منهم، ومستقبل هذا الجيل التَّعيس ضائع في لجة هذه الخصومات.
إن العقلاء والمصلحين في العالم يَرون أنَّ السعادة الحقيقية في هذه الحياة تَكمن بتماسك أفراد الأسرة ووقوفهم إلى جانب بعضهم البعض، لا سيما أيام الشدائد والأزمات، وأنَّ الأسرة التي تَفقد أواصر المحبة والتَّراحم بين أبنائها إنما هي أسرة تَسير في طريق الشقاء والضياع.
قال "جورج برناردشو": ]لا أحد يُمكنه التَّخلص مِن هذه الرابطة التي تَربطه بالعائلة، فهي صِلة وعلاقة وطيدة بين أفراد العائلة[.
وقال "جيم باتشر": ]عندما يَؤول كل شيء إلى الوضع السَّيء نجد بعض الأشخاص يَقفون إلى جانبنا بكل صدر رحب، هؤلاء هم العائلة الحقيقية المتماسكة[.
وقال "ترنبتم لي": ]هُناك أشخاص لا تَربطهم أي صِلة بأشخاص آخرين، ويعتبرونهم ضمن أفراد العائلة، لما يفعلون لبعضهم البعض مِن أشياء جميلة ورائعة، وبالمقابل هناك أشخاص مِن أفراد العائلة، تَربطهم ببعضهم البعض صلة قرابة، ولكنهم لا يهتمون لأمر بعضهم البعض نهائياً[.
وقال "توماس جيفيرسون": ]اللَّحظات الأسعد في حياتي هي تلك اللحظات القليلة التي أقضيها في المنزل في أحضان عائلتي[.
وقال الكاتب الأمريكي "دان ويلككس": ]مهما كان الرَّجل فَقيراً فإن كانت لديه أُسرة فهو غني[.
إنَّ العَرب اليوم هم فقراء، لماذا؟ لأنهم لَيست لديهم أسرة عربية تَضمهم وبيت عربي يصونهم ويجمعهم، لماذا أصبحنا نَرى الأسر يَكيد أبناؤها لبعضهم البعض كما كاد إخوة يوسف لأخيهم يوسف عليه السلام؟ لماذا انتقل الحقد والعداوة مِن الأسرة العربية الصغيرة إلى الأسرة العربية الكبيرة؟.
إن الشعوب اليوم كُلها تتطلع إلى ساسة مُخلصين يُعيدون بناء البيت العربي الذي تَهَدَّمَ، ويجمعون شمل الأسرة العربية الذي تمزق، وتتطلع أيضاً إلى عُلماء مخلصين يعملون بكل قواهم الفكرية والجسدية على نَشر ثقافة المحبة والتراحم بين الناس، فالبيت العربي أصبح كبيت العنكبوت الذي قال الله فيه: )وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ([العنكبوت: 41]، لماذا تتفكك الأسرة المسلمة اليوم؟ لماذا تتفكك الأسرة العربية اليوم؟ ألم يدعونا ربنا جل جلاله إلى الخُلُقِ الحسن، إلى المعاملة الحسنى، إلى التعاون على البر والتقوى؟.
يَذكر علماء الأدب أنَّ الأحنف بن قيس كان جالساً عند يزيد بن معاوية، فدخل ولد يَزيد على أبيه، فزجره والده وطرده من المجلس، فقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين أولادنا أفلاذ أكبادنا وعماد ظهورنا، فلنكن لهم سماء ظليلة وأرضاً ذليلة، ولا تكن عليهم فظاً غليظاً فيملوا حياتك ويتمنوا موتك، لماذا هذه الفظاظة وهذه الغلظة تنتشر بين الأسر المسلمة اليوم؟ لماذا هذا الحسد؟ لماذا هذه العداوة والبغضاء؟ لماذا نَجد الأسرة العربية اليوم تُعاني كما تعاني الأسرة العربية الصغيرة؟ لماذا؟ أين محبة العرب لبعضهم البعض؟.
ألا تتألم -أيها العربي، أيها السوري- عندما تجد جندياً مصرياً يَقتل فلسطينياً خرج مِن فلسطين يقتله على الحدود ويقف جاثماً على صدره؟! أين الدم العربي؟ أين حرمة الدم العربي؟.
ألا تستغرب -أيها العربي، أيها المسلم- مِن تفكك الأسرة العربية ومن حقدها على بعضها البعض، عندما تجد اليمنيين يموتون بطاعون مَرض الكوليرا بالملايين وبالآلاف؟.
ألا تستغرب عندما تجد عرباً ومسلمين ويَدعون بأنهم خُدام للحرمين الشريفين، يعملون على إبادة شعب عربي مسلم أعزل، ويهيؤون في الوقت ذاته كل الأمان والاستقرار والراحة للشعب اليهودي الغاشم المحتل، علاقات واضحة وصريحة أصبحت اليوم بين الأنظمة العربية مع الأسف ومع الكيان الصهيوني، رحلات جوية تخطط أو يُخطط لها اليوم بين الرياض وبين تل أبيب، أما اليمن هناك رحلات جَوية تحمل قنابل عنقودية، أما العراق هُناك مَكرٌ ودَسائس يعمل على تمزيق الصف وتمزيق الشمل العربي، وأما في هذا الوطن الحبيب هُناك حملات غَدر وخيانة تعمل في ليلها ونهارها لإبادة الشعب أكثر مما أبيد مِن الأنظمة الغاشمة والغادرة!.
فهل اليوم مَن يُعيد الأسرة العربية إلى طريقها الصحيح، هل اليوم مَن يَرد العرب والمسلمين إلى المنهج القويم الذي رسمه لهم ربهم جل جلاله، ما أحوجنا اليوم كمسلمين وكعرب أن نكون مُتراحمين أولاً على مستوى العائلة، ثم على مستوى المجتمع، ثم على مستوى الأمة بأسرها، شيء يُؤلم، شيء يبكي القلوب والعيون دماً، على هذا الحال الذي وصلنا إليه من الحقد والعداوة، من الترهل الفظيع والمخيف في معاملاتنا مع بعضنا البعض الذي وصلنا إليه، هل هناك مِن عقلاء؟ هل هناك من مخلصين؟ هل هناك من جهود جبارة تَنهض بالأمة العربية، تنهض بالأسرة العربية، تنهض بهذا المجتمع ليكون مجتمعاً متحاباً مرصوصاً متعاوناً على البر والتقوى كما أمره الله جل جلاله؟.
وينبغي هُنا أن نُشيد إلى أن الأسرة السورية والأسرة العراقية، وعندما أقول الأسرة أعني بهم المقاومين والمجاهدين، عندما التحمت هاتان الأسرتان مع بعضهما البعض نَجد أن تنظيم داعش الإرهابي والإجرامي قد تلاشى مِن عراقنا الحبيب بفضل الله جل جلاله، ما أجمل الأسرة العربية عندما تتعاون، ما أجمل الأسرة العربية عندما تتكاتف، ما أجمل الأسرة العربية عندما تقف مع بعضها البعض في صف واحد وفي خندق واحد، ما أجمل الأسرة العربية عندما تشعر بآلام بعضها البعض، وما أقبح الأسرة العربية عندما تُعادي بعضها البعض، متنكرة لبعضها البعض، وكأن الله خلقهم ليكونوا أعداء لبعضهم البعض، لا ليكونوا أعداء للماسونية العالمية ولليهود الصهاينة الذين دنسوا أقصانا الشريف منذ يومين، بأولئك النسوة العُراة اللواتي تجولن في ساحة المسجد الأقصى الشريف، أين أنت يا خائن الحرمين الشريفين مِن هذا المنظر، أين أنتم أيها التحالف العربي الغربي الذين تواطأتم مع أعداء الله وأعداء رسله، أين أنتم مِن هذا الانتهاك الصارخ، أين أنتم؟ أيَن غيرتكم؟ أين دمكم العربي؟ وأين إسلامكم؟ إن كنتم تدعون أنكم مسلمون أنكم مسلمين حقيقين أين أنتم مما يَجري في هذا العالم، في المجتمع العربي، في الأمة العربية والإسلامية، من مآسي وكوارث، هل أنتم عميان أم مُتعامون؟!.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾.
الخطـــــــــــــــبة الثانيــــــــــــــــــــــــــة:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله.
عباد الله أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل واعلموا أنكم ملاقوه، وأن الله غير غافل عنكم ولا ساه.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارحمنا فإنك بنا رحيم، ولا تُعذبنا فإنك علينا قدير، اللهم إنَّا نَسألك أن تنصرَ رِجالك رَجال الجيش العربي السوري, وأن تَكون لهم مُعيناً وناصراً في السهول والجبال والوديان, وأن تَكون لهم مُعيناً وناصراً في السهول والجبال والوديان, اللهم إنا نَسألك أن تنصر المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله, وأن تُثَبِّتَ الأرض تحت أقدامهم، وأن تُسدد أهدافهم ورميهم يا رب العالمين, اللهم وفق القائد المؤمن والجندي الأول بشار الأسد إلى ما فيه خير البلاد والعباد، وخُذ بيده إلى ما تحبه وترضاه, واجعله بشارة خير ونصر للأمة العربية والإسلامية, )سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(.