إن مثل كثيرٍ من الناس الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا ومتعهم بعمرٍ من الزمن - طويلٍ أو قصير - ليقوموا بمهمةٍ معينةٍ بيّنها لهم وكلفهم بها، ثم إنهم أعرضوا عن هذه المهمة وتشاغلوا بالنعم والمنح التي متعهم الله عز وجل بها، مثل هؤلاء الناس كمثل ملكٍ عظيم أو رئيس دولة أرسل رجلاً من حاشيته وأعيانه إلى بلدةٍ ما ليقوم بمهمةٍ ذات أهمية كبرى في نظره، لم يدخر هذا الملك سبباً من أسباب الراحة إلا وهيأها له، هيّأ له المنزل الفاره في تلك البلدة، هيأ له الرزق الوفير، هيأ له أسباب الأمن والطمأنينة من أجل أن يسخر ذلك كله للقيام بالمهمة التي أرسله لإنجازها، فلما وصل هذا الرجل إلى البلدة التي أُرسل إليها ورأى النعيم الذي هيأه له ذلك الملك له، ونظر إلى أسباب المتع التي توفرت له ركن إلى ذلك كله ونسي المهمة التي قد أوفد من أجلها، فاتخذ من المنزل الفاره الذي سخره له ذلك الملك مقراً ومستوطناً له، واتخذ من الرزق الوفير وأسباب الراحة والمتع الكثيرة سكراً أسكره عن المهمة التي كلفه الملك بها، نسي الملك ونسي المهمة وركن إلى هذه النعم التي سخرت له وعانقها وعانقته، وبقي هناك إلى غير رجعة.
هذا واقع كثيرٍ بل أكثر الناس الذين أوفدهم الله عز وجل من عالم الغيب إلى هذه الحياة الدنيا لمهمةٍ أعلن عنها بيان الله قائلاً: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، وكم في كتاب الله عز وجل من آيات تحمل الإنسان هذه المهمة وتعرفه بوظيفته في هذه الحياة: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
والعجب أيها الإخوة من إنسانٍ رأى نعم الله تترى، ورأى الرزق يفد إليه من كل جانب، ورأى أسباب المتع تتفجر بين يديه ومن خلفه من أجل أن يستعين هذا الإنسان بذلك كله فيكون باراً بربه، ويستخدم ذلك كله للوظيفة التي خُلق من أجلها والتي ينبغي أن يجعل من عمره رأس مالٍ لإنجازها، عجباً لهذا الإنسان كيف يركن إلى الواسطة وينسى الغاية!؟ يركن إلى الدنيا التي جعلها الله مطيةً له وينسى الوظيفة التي كلفه الله عز وجل بها!؟
انظروا إلى حال أكثر الناس المسلمين - ولا أقول عن غير المسلمين - الذين يتحركون في جنبات الأرض تجد أن كلاً منهم قد وضع نصب عينيه حياته الدنيوية، وظائفه ماله سكنه تحسن وضعه المعاشي... كل ما يتعلق بأسباب الرفاه والنعيم وانظر إلى الناس الكثيرين تجد أنهم يتنافسون على هذا الطريق، يتنافسون على طريق تحسين الوضع المعيشي، يتنافسون على طريق الوصول إلى أكبر قدرٍ من المتع في هذا يتنافسون، بينما يقول الله عز وجل عن المهمة التي خُلق الإنسان من أجلها: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
ما عاقبة إنسانٍ كان سائراً على هذا النحو سادراً في غيه على هذا النهج، يأتيه الرزق من عند الله ليزداد قياماً بالوظيفة التي سخره الله عز وجل بها، كلما ازدادت النعم ازداد إعراضاً عن المهمة التي وظّفه الله بها ومعانقة للوسائل والوسائط التي متعه الله عز وجل بها.
أيها الإخوة ما ينبغي أن يكون الإنسان عبداً لئيماً تجاه ربه سبحانه وتعالى، وما ينبغي للإنسان أن يمد يده فيلتقط اللقمة والنعمة ورغد العيش من ربه حتى إذا لاحقه الله عز وجل ليسأله ماذا فعلت بالمهمة التي أرسلتك إليها؟ أصم أذنيه وأعمى عينيه وجعل من نفسه جداراً لا يعي ولا يدرك ولا يسمع، يدرك كل شيء عندما تدعوه ملاذه وعندما تدعوه أسباب متعه إلى أن يزداد إقبالاً إلى الدنيا ومعانقةً لها وتعميقاً لأسباب عيشه ورفاهيته، يُعمل عقله كأذكى إنسان يُعمل وعيه كأكثر ما يتمتع به إنسان من حساسية، حتى إذا لاحقه خطاب الله حتى إذا لاحقه بيان الله جعل من نفسه كهذا الجدار لا يعي شيئاً.
كثيرٌ من هؤلاء أيها الإخوة إذا جلست تحدثهم عن الدنيا ومعايشها وأسبابها وطبائعها حدثك في ذلك حديث عارفٍ دقيقٍ بصيرٍ بهذه الأمور كلها، حتى إذا سألته عن ربه عن دينه عن المهمة التي خُلق من أجلها إذا به لا يعي من ذل كله شيئاً، وكأنه يقول لك بلسان الحال أنا لست متخصصاً في هذا الذي تسألني عنه، أنا لست متخصصاً في الدين، أنا إنسان متخصص بطعامي الذي آكله بشرابي الذي أبحث عنه، بداري التي أريد أن أجد فيها كل أسباب المتع والرفاهية.
مالك تسألني في موضوعٍ لا شأن لي به ولا خبرة لي به؟ لماذا خُلقت؟ لماذا أوجدك الله فوق هذه الأرض؟ بل لماذا سخر لك الله عز وجل سماؤه وأرضه وأنعامه ورزقه ونباته لماذا؟ من أجل هذا الذي تحاول أن تجعل من نفسك منفصلاً عنه وتجعل من نفسك إنساناً لا علاقة لك به. كل علاقتك مع هذا هذا هو الأمر الذي خلقت من أجله، وعما قليل ينقضي العمر وتنطوي أيامه ويأتي ملك الموت ليقول له: انتهت جلسة الامتحان في قاعتها الواسعة الكبرى في هذا العالم، وحان أن آخذ منك صحيفة أعمالك وأن أرحلك إلى الله سبحانه وتعالى وهنالك الحساب والنظر، ماذا تقول له يا ابن آدم؟ أتقول له: لقد عمرت كذا من البيوت والدور؟ أتقول له: لقد جبت الأرض كلها في سبيل مزيد من الرزق وفي سبيل مزيد من المال؟ أتقول له: لقد عرق الجبين مني في سبيل طعامي وشرابي ورفاهيتي؟ أمستعدٌ أن تقول هذا الكلام لمولاك وخالقك؟
أيها الإخوة الله سبحانه وتعالى قد أمر الدنيا كلها أن تخدم الإنسان الذي وعى وظيفته وجعل من نفسه لأمر الله، خادماً للوظيفة التي كلفه الله عز وجل بها، مثل هذا الإنسان لابد أن تكون الدنيا سائرة ورائه خادمةً له بالنهج الذي يصلحه ولا يطغيه. أما الإنسان الذي أعرض عن الوظيفة التي خلقه الله عز وجل من أجلها وعانق الوسيلة، عانق الأسباب والوسائط ونسي الله وأوامره، فإن الله عز وجل قضى بسنته التي لا تتبدل أن يجعل منه خادماً للدنيا، وأن يجعل من الدنيا مخدومة له.
انظر إليه تجده يعرق ينصب تجده ينقذف من يمين إلى شمال، والعكس تجده يجوب أطراف الدنيا كلها من أجل رزقه، من أجل طعامه وشرابه الذي ضمنه الله سبحانه وتعالى له، أجل ولكن انظر إلى واقعه تجد أن السعادة قد زايلته وتجد أن الأمن والطمأنينة قد انفصل كلٌ منهما عنه، وانظر إليه تجد أنه قد غدا هو الخادم للدنيا وأصبحت الدنيا هي المخدومة له، ورحم الله ابن عطاء الله السكندري إذ يقول: "اجتهادك فيما ضُمن لك وتقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس البصيرة منك".
غداً ستنقضي الحياة أيها الإخوة، غداً سننفض أيدينا ومشاعرنا من هذه الحياة التي نتمتع بها، وليس فينا من يعلم هذا الغد متى سيكون. بعد لحظة .. بعد دقائق .. أو بعد أشهر .. أو بعد سنوات .. وإذا نفضنا أيدينا من متع الدنيا ورحلنا إلى الله عز وجل عندئذٍ نعلم تفاهة هذه الدنيا التي وضعناها فوق رؤوسنا، وجعلنا من أنفسنا خداماً لها، وعظم أمر الآخرة الذي وضعنا تحت أقدامنا، وبالمناسبات أصبحنا نتحدث عن هذا الأمر الخطير، من أجل هذا خلقنا أيها الإخوة.