لم تكن مدينة القدس قبل الفتح الإسلامي سنة16 هـ/637 م إلا مدينة صغيرة تعرضت لاجتياح الفرس، ومنذ أن زار الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه المدينة ليستلمها ابتدأ الإعمار الإسلامي فيها؛ إذ أمر عمر أن يبني مسجد في مكان صلاته
وكان يطلق عليه اسم مسجد عمر، كما أمر بإنشاء مظلة من الخشب على الصخرة المشرفة في قمة جبل موريا، واستمرت حتى عهد عبدالملك بن مروان. وعندما كان معاوية بن أبي سفيان والياً على القدس والشام في عهد عمر رمم الأسوار واعتني بالبساتين والأشجار، وبني في عكا داراً لصناعة المراكب والسفن، وفي مدينة القدس نودي خليفة على المسلمين، وهو مؤسس الدولة الأموية، واختار قبل دمشق القدس عاصمة لمكانتها عند العرب
وفي عهد عبدالملك بن مروان أمر بإنشاء قبة الصخرة سنة72 هـ/691 م، وابتدأ بإنشاء المسجد الأقصى الذي أتمه فيما بعد ابنه الوليد سنة97 هـ/715 م, ولقد أنفق عبدالملك مالاً وفيراً في القدس لإنشاء هذين الصرحين للدلالة على قوة الإسلام وانتصاره ، وأمر بتعبيد الطرق بين الشام والقدس لتسهيل سبل الزيارة الدينية المقدسة للحرم القدسي. وفي قبة الصخرة وبعد إنجازها تقبل الوليد بن عبدالملك بيعة المؤمنين ، خليفة علي المسلمين، في حين كان أخوه سليمان ينشئ مدينة الرملة وما فيها من مسجد وقصر ودار للصناعيين، ثم جاء أخوه هشام ليبني قصر المفجر في أريحا ، وهو أضخم قصور الأمويين
ورغم ما أشيع عن إهمال العباسيين لبلاد الشام فلقد زار القدس عدد من الخلفاء مثل المنصور والمهدي والمأمون، وترك كل منهم أثره في إجراء إصلاحات مهمة في المسجد الأقصى وفي قبة الصخرة ، ويعود إلي الخليفة المهدي فضل إعادة بناء المسجد الأقصى سنة158 هـ/744م بعد زلزال أتي عليه. ثم رزئت بلاد الشام بالاحتلال الصليبي الغربي، وكانت القدس الهدف الأكثر أهمية، تم ذلك سنة492 هـ/1099 م، وكان أول ما سعي إليه هؤلاء الغزاة أن جعلوا قبة الصخرة كنيسة رفعوا عليها الصليب وهدموا أطراف الأقصى وجعلوه مقراً لفرسانهم.
وعندما حررها صلاح الدين الأيوبي سنة583 هـ/1187 م قام بإعادة ترميم مسجد قبة الصخرة، وسجل ذلك في محيط القبة من الداخل، وكما كان الأيوبيون أبطالاً في التحرير كانوا قدوة في الإعمار والإنشاء؛ ففي مدينة القدس وحدها قام صلاح الدين بإعادة بناء سور القدس سنة587 هـ/1191 م وتابع أولاده ذلك، كما قام بحفر الخندق حول الأسوار, وأنشأ الملك العادل أخو صلاح الدين الجامع العمري سنة589 هـ/1193 م، وبني سقاية لحفظ الماء وتموين القدس، وأنشأ ابنه الأفضل المدرسة الأفضلية والمسجد، وأنشأ قبة المعراج سنة598 هـ/1201 م وقبة سليمان والزاوية الجراحية والمدرسة الناصرية وزاوية الدركاه وزاوية الهنود.
وتابع المماليك البناء وأصبحت القدس أكثر ازدهاراً في عهدهم، وخلال حكم الملك الناصر محمد بن قلاوون المملوكي، الذي امتد ثلاثة وأربعين عاماً ، حفلت القدس بالعمائر المملوكية التي كانت نموذجاً رائعاً لتطور العمارة الإسلامية
إن المباني الإسلامية التي أنشئت خلال العهود المختلفة تؤكد الشخصية الإسلامية التي تتمتع بها القدس القديمة التي ما زالت محافظة على طابعها العربي رغم انتهاكات اليهود وتغييراتهم الواسعة فيها، كما أن أهم ما يميز مدينة القدس ويؤكد طابعها الإسلامي الأصيل هو الحرم الشريف الذي تظهر فيه روائع العمارة الإسلامية وبخاصة قبة الصخرة؛ فإن المسجد الأقصى الحالي يعتبر في نظر المختصين عملاً معمارياً يجمع بين البساطة والجلال، في صورة تندر في غيره من المساجد، فعلي الرغم من أن بناء جدرانه ليس من السماكة بمكان، خاصة تلك الحاملة للقبة الكبرى، فإن جزءاً كبيراً من فخامة المسجد يرجع إلى سعة بيت الصلاة؛ بحيث تمتلئ النفس مهابة وإجلالاً عند الحلول فيه، وهذه السعة هي التي جعلت المعماري يسقفه بالخشب القوي فقط.
ويرجع الجزء الآخر من الجمال إلى طبيعة الزخرفة المنتشرة في المسجد بكثرة وشمول, فالفسيفساء- وهي في الأصل فن بيزنطي شهير- تنتشر علي الحوائط والقبة من الداخل، ويغطي القاشاني المزخرف جدران المسجد إلى ارتفاع المحراب فيضيف ذلك جمالاً بديعاً ، في الوقت الذي تحتل فيه التفريعات النباتية الخارجة من المزهريات-ثم بعد خروجها تنثني وتلتوي حتي تأخذ أحياناً شكلاً حلزونياً-تحتل جانباً مهماً من الزخرفة (منارات الهدى في الأرض لعبدالله نجيب, ص50)
من كل ما سبق, وبالتاريخ والمعاينة، يظهر لكل منصف وذي عينين أن القدس بمسجدها الأقصى وطرقها وأزقتها وتاريخها وحضارتها جزء من تاريخ الإسلام والمسلمين وحضارتهم المنتشرة في العالم العربي والإسلامي، نسأل الله عز وجل أن يردها إلينا من يد المغتصبين، ولا يضيع حق وراءه مطالب مهما طال الزمان