محاور الكلمة :
1- من آفات العبادات الخطيرة تحوّل العبادة إلى عادة.
2- دواء ناجع لهذه الآفة.
3- بعض الوقفات لإخراج صيامنا من إلف العادة إلى روح العبادة.
في كل سنة نستقبل شهر رمضان ثم نودعه, وتلك سنة الحياة التي لا نملك تغييرها, فنحن لا نملك أن نوقف الزمن الذي يسير بلا توقف, يأتي رمضان ولا نملك منعه من المجيء, ويذهب ولا نملك منعه من الذهاب. ضيف يحل ويرحل كل سنة. نسمع قبله بقليل عن فضل هذا الشهر وأهميته ومكانته وما يجب علينا من اغتنامه, ثم بعد رحيله نسمع كذلك بعض المواعظ في وداعه والحزن على فراقه, حتى أصبح ذلك الأمر عادة تعودناها وقضية ألفناها. أحداث رتيبة تتكرر علينا في السنة وفي الشهر وفي الأسبوع وفي اليوم.
وليس بمستغرب تحول كثير من شؤون الحياة إلى عادات تتكرر علينا حتى نألفها, وتصبح ممارستها ومزاولتها أمراً تلقائياً لا يحرك في النفس ساكناً ولا يثير فيها كامناً. ولئن كان ذلك مقبولاً في شؤون حياتنا الدنيوية فإنه لا شك أنه من غير المقبول تماماً أن ينسحب ذلك على عباداتنا التي نتقرب بها إلى الله.
والمقصود – معاشر المؤمنين – أن من أعظم آفات العبادات آفة الإلف والعادة, فعندما يعتاد المرء على العبادات وتصبح جزءاً من برنامجه اليومي كالصلاة والأسبوعي كالجمعة والسنوي كرمضان والحج تتحول هذه العبادات إلى مجرد أفعال وأقوال متكررة لا تضيف جديداً إلى حياة الفرد. لكن لنعلم أن هذه مشكلة واقعية نتعرض لها جميعاً بلا استثناء, فهل هناك حل؟ وما هو يا ترى؟
نعم عباد الله, هناك حل نبوي عظيم قد أرشدنا إليه رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, عظني وأوجز, فقال له: ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع, ولا تكلم بكلام تعتذر منه غداً, واجمع الإياس مما في أيدي الناس((.
الله أكبر! يا له من دواء لو كنا به عاملين. هذا هو العلاج والحل لتلك المشكلة المعضلة.
تصور - أخي الكريم – أن يقال لك: هذه آخر صلاة تصليها, فهل تظن أنها ستكون مثل الصلاة التي قبلها, بل مثل الصلوات التي قبلها؟! وأترك لك الإجابة.
معاشر المؤمنين, أن تصلي صلاة مودع يعني أن تتصور أن لقاء الله سيكون بعد هذه الصلاة, فهل يظن أحد أن الصلاة ستكون في مثل هذه الحال, صلاة محشوة بالوساوس والهواجس, يصول فيها القلب ويجول في أودية الدنيا؟! كلا والله.
ثم تعال أخي الحبيب, وقل لي: هل تظن أن هذا مجرد كلام لا ينفع, لأنه مجرد خيال يتخيله المصلي, وتصور أنها ربما تكون آخر صلاة أمر مستبعد. لماذا وما الذي يجعلك تظن أنك لن تموت بعد هذه الصلاة؟ هل عندك ضمان بذلك؟! أو تدري متى ينتهي عمرك ويحل أجلك؟!
أليس من المحتمل أن لا تخرج من المسجد إلا محمولاً على الأكتاف؟! يقول تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ]لقمان: 34[.
إذاً فالأمر جد لا هزل فيه, وبذلك يكون الدواء لا مرية فيه. لكن نعود فنقول: أين العاملون؟!
عباد الله, وليكن معلوماً لدينا أن هذا الدواء الذي أرشد إليه رسولنا للقضاء على مشكلة الإلف والعادة في العبادة ليس مقصوراً على الصلاة وحدها, بل إنه دواء نافع وحل ناجع لهذه المشكلة مع كل العبادات.
ولذلك تعالوا بنا نحاول العمل بهذا الدواء لنفس المشكلة في شهر رمضان. فكم منا من قد أَلِف مرور هذا الشهر عليه حتى اعتاد على الصيام والقيام والصدقة وتفطير الصائمين وقراءة القرآن, فما عادت هذه العبادات العظيمة تسمو بالنفس في أفق الإيمان ولا تحلق بها في أجواء الخشوع, والسبب مرة أخرة الإلف والعادة.
فتعال معي – أخي الكريم – نخص هذا الشهر المبارك بمزيد اعتناء, وكأننا نصومه صيام مودع.
تعال نقف مع أنفسنا بعض الوقفات لإخراج صيامنا من إلف العادة إلى روح العبادة.
عباد الله, إننا نصوم في كل سنة وهمنا أن نبرئ الذمة ونؤدي الفريضة لا غير. فليكن همنا في هذا العام أن نحقق معنى الصوم الحقيقي, وأن نتحصل على ثمرة الصيام التي أشار إليها تبارك وتعالى في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) {البقرة: 183}
إن الله يريد منا بصيامنا اكتساب التقوى, فلنحاول جاهدين أن نصوم عن الحرام كما نصوم عن الحلال, ولتصم أيدينا وأرجلنا وأعيننا وآذاننا وقلوبنا كما صامت بطوننا وفروجنا. ليكن صيامنا هذا العام مختلفاً عنه في السنوات الماضية, ولنصم إيماناً واحتساباً حتى يغفر الله لنا ما تقدم من ذنوبنا, فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))
يا أهل القرآن, إننا نقرأ القرآن في رمضان في كل عام ونختمه عدة ختمات, فلنجعل منها هذه السنة ختمة نقرؤها بتدبر وتأمل, وبنية تطبيق أوامر الله والعمل بها. لنعرض أنفسنا على القرآن هل نحن من الذين قال فيهم رسولنا: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) {الفرقان: 30}؟ وأي أنواع الهجر هجرناه؟ هل هجرنا تلاوته وتدبره والعمل به أو أحد أنواع الهجر؟ ثم لنعد إلى الله بترك هذا الهجر.
أيها المصلون, إننا نتنقل بين المساجد بحثاً عن الصوت الأجمل في كل عام, فليكم سعينا في هذا العام بحثاً عن الصلاة الأكمل, حيث يطول القيام والركوع والسجود, فتلك هي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وخاصة في العشر الأواخر, فقد كان يقوم الليل كله.
أيها المصلون, يتزايد حرص الكثير منا في رمضان على عدم تضييع صلاة الجماعة, فليكن حرصنا في هذا العام على عدم تضييع الصف الأول وتكبيرة الإحرام مع الإمام, ويا له من تحول عظيم سوف نشعر بلذته. لقد كان السلف الصالح رحمهم الله يعزون من فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام, وذلك في كل حين وليس في رمضان فقط.
أيها المؤمنون, إننا في رمضان نوسع على أهلنا وأبنائنا بأطايب الدنيا من الطعام واللباس, فهلا وسعنا عليهم كذلك من غذاء الروح وأطايب الآخرة, مجالس الذكر وقراءة القرآن وتعليمهم أمور دينهم. إنها فرصة قد لا تتكرر فإن النفوس مهيأة لقبول الخير بل ومتشوقة إليه.
يا أمة الجسد الواحد, إننا ندخل السرور على أهلنا بالجديد من اللباس والتوسعة في المال, فهلا وسعنا الدائرة قليلاً هذا العام لندخل السرور على أسر أخرى من أقاربنا وغيرهم, قد كبلتهم الديون وأسرتهم الحاجات لم يبوحوا بسرهم إلا لله, (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) {البقرة: 273}
إننا نحرص على الدعاء في كل عام لأنفسنا وأهلينا وذرياتنا, فليكن لإخواننا المسلمين في بقاع الأرض في هذا العام من دعائنا نصيب, فكم من مسلم اليوم ابتلي, ولا يخفى عليكم ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من بلاء وهم وكرب لا يعلم به إلا الله. إننا اليوم نرى إخواننا يقتلون ويسجنون بلا ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله. إننا اليوم نرى تسلط الأعداء قد تكالبوا علينا من كل حدب وصوب, قد فرقتهم أديانهم ومللهم وأفكارهم وغاياتهم ومقاصدهم وهمومهم, وجمعهم حقدهم علينا.
إننا اليوم نعيش مآسي كثيرة وجراحاً نازفة, أينما اتجهت وجدت للمسلمين جرحاً نازفاً, قتل وتشريد, وهدم للبيوت واغتصاب, وسجن وتعذيب.
أمة الجسد الواحد, إنهم ليسوا بحاجة أموالكم وتبرعاتكم بقدر حاجتهم لدعائكم إن بخلتم عليهم بالمال. الدعاء الدعاء – أيها المسلمون – لإخوانكم المستضعفين في كل مكان, خصوهم بالدعاء في سجودكم وقنوتكم وبين الأذان والإقامة وعند الإفطار وفي الثلث الأخير من الليل وما أدراك ما ثلث الليل الآخر؟! وقت لا ترد فيه دعوة, يقول فيه الجبار كما في الحديث القدسي: ((هل من سائل فأعطيه؟((.
الدعاء الدعاء أيها المسلمون, فكم رفع الله من بلاء بهذا الدعاء. واعلم أخي المسلم – أنك ما تدعو لمسلم إلا وقال الملك: ولك بمثل, فقد روى الإمام مسلم من حديث أم الدرداء وأبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة, عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل.
والحمد لله رب العالمين
________________