ممثلاً لمديرية أوقاف دمشق فضيلة الشيخ خالد القصير المشرف العام على المكتب الإعلامي يلقي كلمة المديرية في ملتقى ((ثقافة المبادرة والإبداع والحس بالمسؤولية)) الذي نظمته منظمة طلائع البعث – فرع دمشق وذلك في مركز ثقافي – أبي رمانة بدمشق.
أولاً: / المبادرة في التشريع الرباني /
يقول الله تعالى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)) [آل عمران: 133]، ويقول: ((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرُسُلِهِ)) [الحديد: 21]، والمعنى: بادروا إلى عمل الصالحات وتنافسوا في تقديم الخيرات ولا تُضيِّعوا الأوقات في غير فائدة.
وأمر المصطفى صلى الله عليه وسلم الأمم في كل زمان ومكان بالمبادرة إلى كل ما يُقرِّب من الله عز وجل حين قال: ((بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم - وصف الرجل بأنه: - يبيع دينه بعرض من الدنيا)) رواه مسلم.
في مجتمعنا هذا كثير من الناس أنفسهم خيّرة وقلوبهم طاهرة يحبون عمل الخير وأفعال البر ولكنهم مبتلون بالتسويف وتأجيل الأعمال من يوم إلى يوم, لا ينتهزون الفرص وليس عندهم خُلق المبادرة والمسارعة والمسابقة.
تستمع إلى أحدهم ويحدثك عن أعمال صالحة يريدها, ومشروعات خيريَّة يرسمها, فيعجبك حديثه وتحس فيه الصدق والرغبة ولكن تمر الأيام وتتوالى الشهور وتنقضي الأعوام وأعماله ومشروعاته مازالت أحلاماً لم تتحقق!
لمثل هذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال الصالحة)), بادروا الفرص قبل أن تفوتكم, واحذروا الفتن قبل أن تشغلكم وتصرفكم عن هذه الأعمال, وليست الأعمال الصالحة هي: الصلاة والزكاة والصيام والحج فقط وإنما هي كثيرة متعددة:
- زيارة المريض عمل صالح, فسارع إليه وبادر قبل أن يفوتك.
- إحسانك إلى جارك عمل صالح, فسارع إليه وبادر قبل أن يفوتك.
- إعطاؤك الفقراء والمساكين عمل صالح, فسارع إليه وبادر قبل أن يفوتك.
- إغاثتك الملهوف عمل صالح, فسارع إليه وبادر قبل أن يفوتك.
- إنصافك المظلوم عمل صالح, فسارع إليه وبادر قبل أن يفوتك.
- تربيتُك لأبنائك وبناتك عمل صالح, فسارع إليه وبادر قبل أن يفوتك.
- إنجازك لعملك إن كنت موظفاً عمل صالح, فسارع إليه وبادر قبل أن يفوتك.
- فصلك في الشكاوى المقدمة إليك إن كنت مديراً في مؤسسة أو رئيساً في مصلحة عمل صالح, فسارع إليه وبادر قبل أن يفوتك.
- قيامك بالواجب عليك في كل واجب عليك من جوانب الحياة عمل صالح, فسارع إليه وبادر قبل أن يفوتك.
فيا أيها المسوفون, ويا أيها المترددون, استبقوا الخيرات, فإن الإنسان استبقوا الخيرات فإن الإنسان لا يدري ماذا يعرض له؟ الإنسان لا يدري ماذا يعرض له؟
هناك من يصاب بالفقر بعد الغنى, وهناك من يُغنى غنىً يصل به إلى درجة الطغيان, وهناك من يَعرِض له المرض, وهناك من يصيبه الهرم حتى يصل به إلى درجة الخرف, وهناك من يأتيه الموت سريعاً, ولذلك قال المعصوم صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر)) رواه الترمذي, وقال: حديث حسن.
ثانياً: /حب العطاء/
- تحب أن تقدم نفعاً للآخرين براً للآخرين مالاً للآخرين علماً للآخرين إنه حب العطاء.
- تحب أن يرقى طلابك ويهنأ أولادك وينعم بالخير عمالك ويذهب الألم عن مرضاك وتقدم العون للمراجعين لك إنه حب العطاء.
- تدعو أن يجعل الله هداية الخلق على يديك وشفاء الخلق على يديك وأن يجري قضاء حاجاتهم وتيسير عسير أمورهم على يديك إنه حب العطاء.
* حب العطاء خلق عظيم ترجع إليه مجموعة فروع وسلوكيات خُلقية محمودة, ويشمل العطاء من المال والعطاء من العلم والمعرفة والعطاء من الجهد والنفس, ويرتقي ليصل إلى بذل الروح شهادةً في سبيل الله.
- من حب العطاء كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل يدعوهم إلى الله يريد أن يقدم لهم الخير ليسعدوا في الدنيا ويهنؤوا في الآخرة وربما آذوه وشتموه فيدعو: ((اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)).
- من حب العطاء خرج المصطفى إلى الطائف يدعوهم إلى الجنة ففعلوا به ما علمتم من إيذاء وسخرية وتسفيه رأي, وجاءه ملك الجبال يستأذنه في أن يُطبِق عليهم الأخشبَين, فقال صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)).
- من حب العطاء: تحبس أمٌ طبيبةٌ حافظةٌ للقرآن الكريم نفسَها على خدمة أولادها لتراهم بعد سنين حفظةً للقرآن الكريم, متخرجين في الجامعات، يزدادون كل يوم قرباً من الله وبراً للخلق, وترقى هي عند الله بعطائها درجات ودرجات.
- من حب العطاء: يَقْصُرُ شاب مفتوحة له أبواب الدنيا على مصراعيها يقصُر نفسه على خدمة أبيه المقعد ليجعل من نفسه خادماً عند قدميه يطعمه ويسقيه، يضاحكه ويؤانسه، تاركاً حظوظ نفسه وراء الوراء، فيرضى الوالد ويرضى برضاه ربه.
- من حب العطاء: أن تمرض الزوجة فيبذل الزوج لها الغالي والنفيس وتدعو دموع عينيه ربه أن يُنزل الشفاء عليها, ويمرض الزوج فتبقى الزوجة حبيسةَ البيت تخدُمه وترعاه وتؤانسه، ترجو رضى الله ورضاه.
- من حب العطاء: أن يفرح عاملٌ بسعادة صاحب العمل عندما يخبره بأنه كان سبباً لرد أذية عنه أو سَوقِ رزق له وأن يفرح صاحب عمل إن أكرم الله عامله بالزواج أو بشراء منزل أو بحصوله على رتبة علمية جديدة أو باستقلاله بعمل جديد خاص به.
- من حب العطاء: كان معلمونا يفخرون بأنهم خَرَّجوا معلمين ناجحين أمثالهم أو خيراً منهم، وكان تجارنا يفخرون أنهم درَّبوا تجاراً فاقوهم وسبقوهم، وكان شيوخنا يهنؤون لأن تلامذتهم سبقوهم في الدعوة إلى الله والتعليم.
إني اطلعت على كثير من الاتفاقيات الدولية والإعلانات العالمية المعنية بحقوق الإنسان فوجدتها جميعاً تتحدث عن الحقوق:
حقوق المرأة – حقوق الطفل – حقوق الأقليات – حق الحرية – حق المساواة – حق التملك – حق التمتع بالجنسية – حق اللجوء – حق الهجرة – الحق في العمل – الحق في التعلم – الحق في التعبير عن الرأي – الحق في حرية التفكير والضمير والدين – الحق في الحماية من التعذيب – الحقوق الاقتصادية – الحقوق السياسية – الحقوق المدنية. وهكذا.. منظومة حقوق تقدَّم للناس في محافل السياسة ومحافل الإعلام والتعليم والتربية الدولية.
وبالمقابل قرأت آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت منهج الإسلام والمسلمين هو منهج التركيز على أداء الواجبات لا نيل الحقوق، الواجبات التي هي بذاتها حقوق الآخرين، فكل حق يقابله واجب، والديانات السماوية تربي أتباعها على حب العطاء.
فقد تربينا صغاراً على وجوب بر الوالدين وهو واجب الأبناء نحو آبائهم، وعلى صلة الرحم وهو واجب المرء نحو أسرته، وواجب النفقة على الزوجة والأولاد، وواجب طاعة الزوجة زوجها، وواجب دفع الزكاة، وواجب إكرام الضيف، وواجب إغاثة اللهفان، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,... وهي منظومة عطاء يربنا عليها الدين في مقابل منظومة أخذ.
لاريب أن المرء ولا شك أنه يُسَرُّ عندما يأخذ ولكنه -وأقسم لكم- يَسعَدُ عندما يعطي، صحيح؟ هل تشعرون فيها؟ ولاريب أنَّ المرء يفرح عندما يُقدِّم له الآخرون الخدمة، ولكنه -وأقسم لكم- يطمئن من الداخل عندما يُقَدِّمُ للآخرين خدمة.
إنَّ من يصعد على عاتق الآخرين يرقى؛ ولكن من يحمل الآخرين –أقسم لكم- أنه يَنقى.
وديننا -أيها الشباب, أيتها الأخوات- قائمة على حب العطاء، والمبادرة في العطاء وعلى حب تقديم النفع للعباد.
ثالثاً: /تعزيز المنظومة الأخلاقية/
الإسلام: عقيدة, وشريعة, وأخلاق.
فأما العقيدة: فتقوم على أصول الإيمان وأركانه، مما يجب أن يعتقد به المؤمن ويصدِّق به.
وأما الشريعة: فهي خمسة أقسام: عبادات، ومعاملات، وغيرها ...
وأما الأخلاق فقسمان:
1- أخلاق ممدوحة أمرنا بالتحلي بها: كالصدق، والأمانة، والوفاء بالوعد والتضحية والمبادرة والعطاء ... الخ
2- أخلاق مذمومة أُمرنا بالتَّخلِّي عنها: كالحسد، والحقد، والبخل والبغضاء ...الخ
والخلق هو السجية, وعرفه الإمام الغزالي بأنه: (هيئة في النفس راسخة، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويُسر، من غير حاجة إلى فكر و رويَّة).
ولا يكتمل إيمان المرء حتى يكتمل أخلاقه.
إن المؤامرة التي تعرضت لها سوريا استهدفت الإنسان والبنيان, ولابد لتجاوز مفرزات هذه المؤامرة من إعادة ترسيخ القيم الاجتماعية, لإعادة ترميم ما خربته الحرب على سوريا إلى جانب مواجهة الفكر التكفيري الذي أدى إلى الإرهاب فنحن كدعاة نواجه الإرهاب والتكفير بفقه الأزمة ونعيد بناء سوريا بالمنظومة الأخلاقية.
وإن المجتمعات عامة والمجتمعات الإسلامية خاصة أحوج ما تكون إلى خُلُق حَسَن يشدُّ أواصرها ويُنمي روابطها، ويُؤلف بين قلوب أفرادها، وهذا في جميع المجالات:
الزوجان محُتاجان إلى خلق حسن يُوثّق عقدة نكاحهما ويَزيد الوُدَّ بينهما، والقريبان أيضاً مُحتاجان إلى خُلق حسن يَشُدٌّ أواصر القربى بينهما، والجاران محتاجان إلى خلق حسن لِتَدوم الألفة بينهما.
ومثلما يُحمد الخلق الحَسَن في البيت يُحَمد ويطلب في العمل، بل إن الخلق الحسن سَبب من أسباب التوفيق في العمل والسعة في الرزق، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((حسن الْخُلُقِ نَمَاءٌ وَسُوءُ الْخُلُقِ شُؤْم وَالبرُّ زِيَادَةٌ في الْعُمُرِ وَالصَّدَقَةُ تَمْنَعُ مِيتَةَ السَّوْءِ)).
واليوم بدأ عالم الاقتصاد يُقَنِّن الأخلاق ويَجعلها مَعايير للجودة في المؤسسات الاقتصادية والأسواق التجارية، وقد كان التَّقييم فيما مَضى يَعتمد على أدائها المالي، أما الآن فقد تَحوَّل التقييم إلى بُعدين: أخلاقي ومالي, وبدؤوا يَضعون مَعَاييرَ لِقياس الأداء الأخلاقي للشركات.
وبينت الدِّراسات الميدانية أن إلتزام الأخلاق يُؤدي إلى زيادة الربح، وفي دراسة قام بها باحث أمريكي وازَنَ بين شركات تلتزم بالأخلاق الحسنة والمسؤولية الاجتماعية وبين شركات لا تهتم بذلك، تبين أن متوسط نمو الربحية في الشركات الأولى حوالي 11 % سنوياً بينما في الثانية 6% سنوياً.
و قال الفُضيل بن عياض: (إنَّ الفَاسق إذا كان حَسَن الخُلق عَاش بعقله ، وإن العَابد إذا كان سيء الخلق ثَقل على الناس ومَقَتوه).
هذا وإن للخُلق العالي فوائد دينية ودنيوية وأخروية:
قال النبي المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إن المؤمن لَيُدرِك بحسِن خُلُقِه درجة الصَّائم القائم)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف في العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم)).
ويحب الله تعالى حَسَن الخلق: ((إِنَّ اللهَ يُحبُّ الْمُحسِنِين() [البقرة:195[.
والله تعالى لا يحب سيء الخُلق أيضاً هو أخبرنا: ((إِنَّ الله لا يُحبُّ مَن كانَ مُخْتَالا فخُورَا)) [النساء: 36[, وقال تعالى: ((إِنَّ الله لا يُحبُّ مَن كانَ خَوَّانَا أثيمَا)) [النساء: 107[, وقال تعالى: )(إِنَّه لا يُحبُّ الْمُسْتَكْبرِين() [النحل: 23[.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( إن الله كريم يحب الكرم , ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها )), وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن الله يُبغض الفاحش البذيء )).
ولا يزال سوء الخلق يُوبق صاحبه حتى يفسد عمله، ويذهب حسناته، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, فقال: إن المفلس مِن أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا، وضرب هذا, فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته, فإن فَنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار )).
فنحن بحاجة إلى الأخلاق الحسَنة في بيوتنا، في محلاتنا, في أسواقنا، في دوائرنا الحكومية, في كل مجال ندخل فيه.
ختاماً: من سَاء خلقه عذَّب نفسه، ومن سعادة ابن آدم حُسن خلقه، ومن شقاوته سوء خلقه.