الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين :
أخرج الطبراني في الأوسط من حديث محمد بن مسلمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها, لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يَشقى بعدها أبداً).
إنه شهر شعبان، شهر بين رجب ورمضان، يغفل الناس عن الصوم فيه؛ لأنه زمن غفلة، ولو علم الناس قدر العبادة في زمن الغفلة لما أعرضوا عنها، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه مسلم-: (سبق المفردون) ثم عَرَّفَهُم بقوله: (الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) قال المناوي رحمه الله: "المفردون: أي المنفردون المعتزلون عن الناس، من فرد إذا اعتزل وتخلى للعبادة، فكأنه أفرد نفسه بالتبتل إلى الله تعالى". فهؤلاء لما ذكروا الله وقد غفل غيرهم كان السبق لهم.
ففي هذا الشهر الذي قال عنه النبي: (ذلك شهر يغفل الناس عنه) ينبغي للمؤمنين أن يكونوا في شأن غير شأن الناس, الذين هم أهل الغفلة، كما قال الحسن البصري رحمه الله: "المؤمن في الدنيا كالغريب، لا يجزع من ذلها، ولا يُنافِس في عِزِّها، له شأن وللناس شأن". فعلى المؤمنين في وقت الغفلة أن يَزدادوا قُرباً وطاعة لله تعالى، وهذا مَا كان يَحثُّ عليه النبي.
فشهر شعبان شهر عظيم، عظمَّه رسول الله ، وحري بنا أن نعظمه وأن نكثر من العبادة والاستغفار.
فضل صوم شعبان:
ثبت في الصحيحين عن عائشة رضِيَ الله عَنْهَا أنها قالت: (لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَان، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّه) وفي رواية لهما عنها رضي الله عنها: (كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلَّا قَلِيلًا). قال ابن المبارك رحمه الله: "جَائِزٌ في كَلَامِ الْعَرَبِ إذا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يُقَالَ صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ".
وأخرج البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله يصوم حتى نقولَ لا يفطر، ويفطر حتى نقولَ لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان).
سبب صوم شعبان:
أخرج النسائي عن أسامة بنُ زيد رضي الله عنهما قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِم).
وسؤال أسامة رضي الله عنه يدل على مدى اهتمام الصحابة الكرام، وتمسكهم بسنة النبي .
ورفع الأعمال إلى رب العالمين في شعبان على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن تُرفع الأعمال إلى الله تعالى رفعاً عاماً كل يوم، كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر, ثم يَعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم -وهو أعلم بهم-؟ كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصلُّون وأتيناهم وهو يُصلُّون).
وأخرج مسلم عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه، يرفع الله عمل الليل قبل النهار, وعمل النهار قبل الليل، حِجابه النور لو كَشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
النوع الثاني: رفع الأعمال إلى الله تعالى يوم الاثنين والخميس، وهذا عرض خاص غير العرض العام كل يوم.
فقد أخرج أحمد في مسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الاثنين والخميس، فقيل له -أي سُئل عن ذلك- فقال: (إن الأعمال تُعرض كل اثنين وخميس، فيُغْفَر لكل مسلم -أو لكل مؤمن- إلا المتهاجرين، فيقول أَخِّرهما) وعند الترمذي بلفظ: (تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحبُّ أن يُعْرَضَ عملي وأنا صائم)
النوع الثالث: هو رفع الأعمال إلى الله تعالى في شعبان، كما جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والنسائي، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن شهر شعبان: (وهو شهر تُرفع الأعمال فيه إلى رب العالمين، فأحبُّ أن يُرْفَع عملي وأنا صائم).
ورفع الأعمال إلى الله تعالى مع كونه صائماً أدعى إلى القبول عند الله تعالى.