الحَمدُ للهِ رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وَبَعدُ: فَهَذَا مَوسِمٌ عَظِيمٌ لِلطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الْمُبَارَكَة، فَهَا هُوَ عَشرُ ذِي الحِجَّةِ قَد أَقبَلَ عَلَينَا، بِخَيرَاتِهِ وَبَرَكَاتِهِ وَفَضَائِلِه، فَأَعظَمُ الزَّمَنِ بَرَكَةً هَذَا العَشر؛ إِذْ لَهُ مَكَانَةٌ عَظِيمَةٌ عِندَ اللهِ تَعَالى، تَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَتَعظِيمِهِ لَهَا، فَهِيَ عَشرٌ مُبَارَكَاتٌ كَرِيمَات، كَثِيرَةُ الحَسَنَاتِ قَلِيلَةُ السَّيِئَات، عَالِيَةُ الدَّرَجَاتِ مُتَنَوِّعَةُ الطَّاعَات.
فَمِن فَضَائِلِ هَذِهِ الأَيَّام: أَنَّ اللهَ أَقسَمَ بِهَا فَقَال: )وَالفَجرِ وَلَيالٍ عَشْر( وَلا يُقسِمُ اللهُ إِلا بِعَظِيم، وَلَم يُقِسم رَبُّنَا فِي القُرآنِ إِلا بِأَعظَمِ الأَزمِنَةِ وَأَعظَمِ الأَمكِنَة، فَاللهُ لَهُ أَنْ يُقسِمَ بِمَن شَاءَ مِن خَلقِه، وَلَكِن لا يَجوزُ لِأَحَدٍ أَن يُقسِمَ إِلا بِاللهِ تَعَالَى، فَالقَسَمُ بِهذِهِ الأَيَّامِ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهَا وَرِفعَةِ مَكَانَتِهَا وَتَعظِيمِ اللهِ لَهَا.
وَمِن فَضَائِلِ هَذِهِ الأَيَّام: أَنَّ اللهَ قَرَنَهَا بِأَفضَلِ الأَوقَات، قَرَنَهَا بِالفَجر، وَبِالشَّفعِ وَالوَتر، وَبِاللَّيلِ إِذَا يَسر، فقال سبحانه: )وَالفَجرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْر( [الفجر: 1-4] وَكُلٌ مِن هَذِهِ الأَوقَاتِ لَها فَضَائِلُ عَظِيمَةُ القَدرِ جَلِيلَةُ الفَضل، فَلَقَد اختَارَ اللهُ الزَّمَان، فَأَحَبُّ الزَّمَانِ إِلَى اللهِ الأَشهُرُ الحُرُم، وَأَحَبُّ الأَشهُرِ الحُرُمِ إِلَى اللهِ ذُو الحِجَّة، وَأَحَبُّ ذِي الحِجَّةِ إِلَى اللهِ العَشرُ الأَوَّلُ مِنه، فَهُوَ أَفضَلُ أَيَّامِ السَّنَة، لِقَولِ رَسُولِ اللهِ عليه الصلاة والسلام: (سَيِّدُ الشُّهُورِ رَمَضَان، وَأَعظَمُهَا حُرمَةً ذُو الحِجَّة) وَقَالَ مُجَاهِدٌ رضي الله عنه مَا مِن عَمَلٍ فِي أَيَّامِ السَّنَةِ أَفضَلُ مِنهُ فِي العَشرِ مِن ذِي الحِجَّة، وَهِيَ العَشرُ التِي أَتَمَّهَا اللهُ لِسَيِّدِنَا مُوسَى عليه السلام.
ومِن فَضَائِلِ هَذِهِ الأَيَّام: أَنَّ اللهَ أَكمَلَ فِيهَا الدِّين؛ وَقَد حَسَدَنَا اليَهُودُ عَلَى هَذَا الكَمَال، فَقَالَ حَبرٌ مِن أَحبَارِ اليَهُودِ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رضي الله عنه آيَةٌ فِي كِتَابِكُم لَو نَزلَتْ عَلَينَا مَعشَرَ اليَهُودِ لاتَّخَذنَا ذَلِكَ اليَومَ الذِي نَزَلَتْ فِيهِ عِيدَاً: )اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسلاَمَ دِينَاً( [المائدة: 3] فَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي الله عنه (إِنِّي أَعلَمُ أَيَّ يَومٍ نَزَلَت هَذِهِ الآيَة، نَزَلَتْ يَومَ عَرفَةَ فِي يَومِ جُمُعَة) وَكَمَالُ الدِّينِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الأُمَّة.
وَمِن فَضَائِلِ هَذِهِ الأَيَّام: أَنَّ اللهَ أَتَمَّ فِيهَا النِّعمَة بِأَنوَاعِ الطَّاعَاتِ القَولِيَّةِ وَالفِعلِيَّةِ وَالتَّعَامُلِيَّة، وَمِن تَمَامِ النِّعمَةِ أَنَّ اللهَ فَتَحَ قُلُوبَ العِبَادِ لِلإِسلَام، فَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفوَاجَاً، وَمِن تَمَامِ النِّعمَةِ مَنعُ الكُفَّارِ مِن دُخُولِ الحَرم، وَاختِصَاصُ الْمُسلِمِينَ بِذَلِكَ إِلَى يَومِ القِيَامَة، وَمِن تَمَامِ النِّعمَةِ مُضَاعَفَةُ الأُجُورِ وَالحَسَنَاتِ فِي هَذَا العَشر.
وَمِن فَضَائِلِ هَذِهِ الأَيَّام: أَنَّ كَثِيرَاً مِن العِبَادَاتِ تَجتَمِعُ فِيهَا وَلا تَجتَمِعُ فِي غَيرِهَا، فَفِيهَا دُعَاءٌ وَاستِغفَار، وَصَلَوَاتٌ وَصَدَقَات، وَصَومٌ وَحَجّ، وَذِكرٌ وَتَلبِيَة، فَاجتِمَاعُ هَذِهِ العِبَادَاتِ شَرَفٌ عَظِيمٌ لِهَذَا العَشرِ الْمُبَارَك.
وَمِن فَضَائِلِ هَذِهِ الأَيَّام: أَنَّهَا أَفضَلُ أَيَّامِ الدُّنيَا عَلَى الإِطلَاق، دَقَائِقُهَا وَسَاعَاتُهَا وَأَيَّامُهَا وَأُسبُوعُهَا، فَهِي أَحَبُّ الأَيَّامِ إِلَى الله، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى الله، لِأَنَّهَا مَوسِمٌ لِلرِّبحِ وَالفَوز، وَهِيَ طَرِيقٌ لِلنَّجَاةِ وَالفَلَاح، وَهِيَ مَيدَانُ السَّبقِ إِلَى الخَيرَات، لِقَولِ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام: (مَا مِن أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِن هَذِهِ الأَيَّام) يَعنِي أَيَّامَ عَشرِ ذِي الحِجَّة، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَلا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله؟ قال: (وَلا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله، إِلا رَجُلٌ خَرجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ، فَلَم يَرجِعْ مِن ذَلِكَ بِشَيء) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العَمَلَ فِي أَيَّامِ العَشرِ أَفضَل مِنَ الجِهَادِ بِالنَّفسِ وَالْمَال، وَأَفضَلُ مِنَ الجِهَادِ بِهِمَا، وَالعَودَةِ بِهِمَا أَو بِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ لا يَفضُلُ العَمَلُ فِيهَا إِلا مَن خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِه وَلَم يَرجِعْ لا بَالنَّفسِ وَلا بِالْمَال.
وَقَد رُوِيَ عَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال: "كَانَ يُقَالُ فِي أَيَّامِ العَشر: بِكُلِّ يَومٍ أَلفُ يَوم ، وَيَومُ عَرَفَةَ بِعَشرَةِ آلافِ يَوم" يَعنِي فِي الفَضل. ورُوِيَ عَن الأَوزَاعِيِّ رضي الله عنه قال: "بَلَغَنِي أَنَّ العَمَلَ فِي يَومٍ مِن أَيَّامِ العَشرِ كَقَدرِ غَزوَةٍ في سَبِيلِ الله، يُصَامُ نَهَارُهَا وَيُحرَسُ لَيلُهَا، إِلا أَنْ يَختَصَّ امرُؤٌ بِالشَّهَادَة".
وَمِن فَضَائِلِ هَذِهِ الأَيَّام: أَنَّهُ يُستَحَبُّ الصِّيَامُ فِيهَا، وَأَخبَرَ نَبِيُّنَا عليه الصلاة والسلام أَنَّ فَضلَ الصِّيَامِ وَأَجرَهُ عَظِيمٌ فِيهَا، فَقَال عليه الصلاة والسلام: (مَا مِن أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلى اللهِ أَن يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِن عَشرِ ذِي الحِجَّة، يَعدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَومٍ مِنهَا بِصِيَامِ سَنَة، وَقِيَامُ كُلِّ لَيلَةٍ مِنهَا بِقِيَامِ لَيلةِ القَدر) وَكَانَ رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام لا يَدَعُ صِيَامَ هَذِهِ الأَيَّامِ الْمُبَارَكَة.
وَمِن فَضَائِلِ هَذِهِ الأَيَّام: أَنَّهُ يُستَحَبُّ قِيَامُ لَيلِهَا، وَأَخبَرَ نَبِيُّنَا عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ يَعدِلُ قِيَامُ كُلِّ لَيلَةٍ مِنهَا بِقِيَامِ لَيلَةِ القَدر، وَكَانَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه يَقول: "لا تُطفِئُوا سُرُجَكُم فِي لَيَالِي العَشر" وَهَذَا كِنَايَةٌ عَن طُولِ القِيَامِ فِي لَيَالِي العَشَر.