لقد هاجر رسول الله من أجل الدين لا من أجل الدنيا، فقد بَقي في مكة طِيلَةَ هذه المدة، رَغمَ الأذى الذي يَتعرض له هو وأصحابه، لأنه كان يَسيرُ بِأَمرِ اللهِ سُبحَانَه، وكان يُريدُ أَن يُبَلِّغَ دِينَ اللهِ تعالى، وأَن يَهدِيَ البَشَرِيَّةَ إلى طريقِ السَّعَادَةِ الأبِديَّة، فَقَد قَالَ عَنهُ ربنا: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا( فهاجر من أجل الله، ومن أجل الدعوة إلى الله، وكذلك هاجر أصحابه ، من أجل دينهم لا من أجل دُنياهم، بل إنهم تَركوا الدنيا في مكة، فمنهم من هاجر وترك ماله، ومنهم من هاجر وترك بيته ومتاعه؛ لأنهم لما نظروا إلى المال والدين، وجدوا أن ضَياعَ المالِ يُعَوَّض، ولكن ضَيَاعَ الدِّين لا يُعوّضُ أَبداً، وجدوا أن كسر المال والبيت والأهل يُجبر، أما كَسرُ الدين فإنه لا يُجبر.
والهجرة إلى مكة تعتبر ثالث هجرة بالنسبة لأصحاب النبي ، فقد هاجروا قبلها إلى الحبشة مرتين، ورَكِبُوا البحر وصارعوا الأمواج، وتعرضوا للأخطار من أجل دينهم، وها هم يَتركون مكة موطِنَهُم وموطِنَ آبائهم، مهاجرين إلى المدينة استجابة لأمر الله ورسوله.
وهكذا خرج رسول الله برفقه صاحبه الصديق من مكة متجهاً نحو جبل ثور، فأمضيا في غار ثور ثلاث ليال، يَنتظران أن يَخِفَّ عنهما الطلب، حتى يخرجا إلى المدينة، وكانت قريش تبحث عنهما بجنون، وتبعث بعيونها في كل مكان، وتجعل الأموال الطائلة لمن يأتيها بمحمد ، وقد وصل كفار قريش إلى الغار الذي يَختبئ فيه رسول الله وصاحبُه، ولكن الله صرفهم عنه وردهم خائبين، فيقول أبو بكر للنبي وهما في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فيقول المصطفى : (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، إذا كان الإنسان في معية الله وعنايته ورعايته، وإذا أيّدَ الله عبده وَنَصَرَهُ وحماه، فإن الكونَ كُلَّهُ لَن يَضُرَّه بِشَيء، إلا بِشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عليه.
وينزل قول الله عزَّوجل : )إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَد نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم(.
لقد كانت الهجرة النبوية نتيجةَ صَبرِ ثَلاثَةَ عَشَرَ عَامَاً، مِن الخُوفِ وَالجَوعِ وَالِحصَارِ وَالأَذَى، فكانت الثمرةُ على قَدر التعب والصبر، وهكذا هذا الدين، لا يُعطي ثمرته إلا لمن صبر وثابر، أما من استعجل النتائج فإنه يُحرَم، وهذه سنّة الله في الكون، فَمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فدولة المدينة التي شَعَّ مِنهَا النُّورُ إلى كُلِّ الأَرضِ كانَت نَتِيجَةً لِصَبرِ مَكَّة، والنبي الذي خرج من مكة سِرَّاً والنُاسُ يَبحَثُون عنه، دخل المدينة في احتفال عظيم، يَحفُّ به الناس من كلّ جانب، كلٌّ منهم يَطلب منه أن يَنـزل عنده، وتَحقق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه وعده لعباده الصالحين: )وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا( وها هي الدعوة التي انطلقت من رجل فقير من قريش، ومعه رهط يَسير ممن سبقوا إلى التصديق والإيمان، وأكثرهم من الضعفاء والموالي، ها هي يَحملها اليوم أكثر من مليار ونصف إنسان في كافة أنحاء الدنيا، وها هو الإسلام يَدخل كل بيت، ونداء الحق يَرتفع في كل مكان، يقول الله تعالى: )يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون( ويقول النبي : (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يَتركُ اللهُ بَيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو ذل ذليل، عِزَّاً يُعز الله به الإسلام، وَذُلاً يُذل الله به الكفر) هذا وعد صادق من الله، لكل من سار على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دون تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان.
أيها المسلمون: هكذا تُعطينا الهجرة اليوم ما يَعظنا في حاضرنا، وينفعنا في أولانا وأخرانا، وهناك اليومَ في أرجاء المعمورة، إخوانٌ لنا مهاجرون مسلمون، أُرغموا على ترك ديارهم وأوطانهم، بعد أن فَعل بهم الكفرة الأفاعيل، ويَقطعون عليهم الطريق، ويُعذبون أهلهم العذاب الشديد، لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله، فهاجروا كرهاً وأخرجوا كرهاً، فهم يُهاجرون من موطن لآخر، إقامةً لدين مُضطَهَدٍ وَحَقٍ مسلوب، في كثير من بلاد المسلمين.
فلنتق الله أيها المسلمون، لنقف وقفة المهاجر بنفسه، وإن لم يُهاجر بحسه، فلنهاجر إلى الله بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا، ولنلجأ إلى الله جل جلاله، ليكون المولى ناصرنا ومؤيدنا، فلقد قال الله تعالى: )إِن يَنصُرْكُمُ ٱللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ٱللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُون( اللهم ردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وانصرنا على أنفسنا وشهواتنا، وانصرنا على عدوك وعدونا، برحمتك يا أرحم الراحمين.