قال الله تعالى: ) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنَاً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامَاً( [سورة الفرقان (63)] .
إنَّ الحلــم هو ضبط النفس وكظم الغيظ ، والبعد عن الغضب ، ومقابلة السيئة بالحسنة ، وهو لا يعني أن يرضى الإنسان بالذل أو يقبل الهوان ، وإنما هو الترفع عن شتم الناس ، وتنزيه النفس عن سبهم وعيبهم وللحلم مكانة عظيمة ، فهو صفة من صفات الله تعالى ، فالله سبحانه هو الحليم ، يرى معصية العاصين ومخالفتهم لأوامره فيمهلهم ، قال الله تعالى: )وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيم([سورة البقرة (235)].
والحلم خلق من أخلاق الأنبياء ، قال ربنا تعالى عن سيدنا إبراهيم : )إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم( [سورة التوبة (114)] ولقد بعث الله له من ذريته غلاماً حليماً ونبياً كريماً ، إنّه سيدنا إسماعيل: )فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيم( [سورة الصافات (101)] . وأثنى رسول الله على أشج عبد القيس ، فَقَالَ لَهُ نبينا : (إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاة) قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا ؟ قَالَ: (بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا) قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُه [أخرجه أبو داود] .
ويثني الله سبحانه على أصحاب هذا الخلق النبيل بقوله عز وجل: )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين / الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ( [سورة آل عمران (133- 134)] .
ومن ثمـــرات الحلم: أنَّ الحلم دليل على قوة إرادة صاحبه ، وتحكمه في انفعالاته ، قال رَسُولَ اللهِ : (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَب) [أخرجه مسلم] . والحلم وسيلة لكسب الخصوم ، والتغلب على شياطينهم ، وتحويلهم إلى أصدقاء ، قال الله تعالى: )وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم( [سورة فصلت (34)] . وروي أن النبي قال حاثّاً على الحلم مشجعاً عليه: (أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ، كان إذا خرج من منزله قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك) [أخرجه ابن السني].
نمـاذج مـن حيـاة رسول الله:
- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: غزونا مع النبيعليه الصلاة والسلام غزوة ، فلما أدركته القائلة وهو في واد ٍكثير العضاه ، فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلق سيفه ، فتفرق الناس في الشجر يستظلون ، وبينا نحن كذلك إذ دعانا رسول الله ، فجئنا فإذا أعرابي قاعد بين يديه ، فقال النبي : (إن هذا أتاني وأنا نائم ، فاخترط سيفي ، فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترطٌ صلتاً ، قال: من يمنعك مني ؟ قلت: الله ، قال: ولم يعاقبه رسول الله ) [أخرجه البخاري].
- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النبي عليه الصلاة والسلام ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً ، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ عليه الصلاة والسلام ، وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِه ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ النبي فَضَحِكَ ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاء) [أخرجه مسلم].
- عَن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا أنها قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّه : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُد ، فَقَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَا لِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ فَمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْن) فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ : (بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً) [أخرجه مسلم] . فأي شفقة وأي عفو وصفح وحلم من إنسان يُضاهي هذا الحلم إلا حلمه .
-ولما كُسِرت رُباعيته وشُجَ وجهه يوم أُحد ، شَقَ ذلك على أصحابه ، وقالوا: يا رسول الله ، ادعُ على المشركين ، فأجاب أصحابه قائلاً لهم: (إني لم أُبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) .
- وأعظم من ذلك موقفه مع أهل مكة ، بعدما أُخرج منها وهي أحب البلاد إليه ، وجاء النصر من الله تعالى ، وأعزه سبحانه بفتحها ، قام فيهم قائلاً: (ما تقولون أني فاعل بكم ؟) قالوا: خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : (أقول كما قال أخي يوسف): {لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللَّه لكم وهو أرحم الراحمين} (اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
- حبر من أحبار اليهود رأى سيدنا محمداً ، وسمع كلامه سماع تفكر ، وراقب أحواله مراقبة تبصر ، وراجع في التوراة صفات الأنبياء مراجعة تحقق وتدبر ، ثم جاء إلى النبي وهو يُعد في نفسه لأمر خطير ، وكرر المجيء حتى رأى الفرصة السانحة لما يريد ، رأى عند رسول الله رجلاً يشكو إليه أن جماعته قد أسلموا ، وجاءت عليهم سنة ضيقة مجدبة ، وطلب من النبي مؤونة يعينهم لكي لا يظنوا أن ما أصابهم من ضيق كان سببه دخولهم في الإسلام فيرتدوا عنه ، ولم يكن عند رسول الله شيء يعطيه ، حينئذ سارع الحبر اليهودي زيد بن سعنة لينفذ ما أعده في نفسه ، فقال للنبي : أنا أقرضك ما تعينهم به ، ولكن اجعل بيني وبينك أجلاً توفيني عنده هذا الدين ، قال رسول الله : نعم ، وضرب لليهودي أجلاً معيناً ، ومرت الأيام ودنى ذلك الأجل ، فجاء إلى النبي قبل اليوم المعين بمدة ليطالبه بالدين ، فقال رسول الله له: إن الأجل لم يحن بعد ، فاقترب الرجل من النبي بغلظة وامسك بردائه من عند عنقه وجذبه بعنف وشراسة قائلاً: يا محمد أعطني حقي ، فإنكم معشر بني هاشم قوم تماطلون فيوفاء الدين ، وأثّر الثوب في عنق رسول الله تأثيراً شديداً ، فإذا بسيدنا عمر تأخذ بنفسه حمية الحق ، فيقول: يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنق هذا الكافر ، فقد آذى الله ورسوله .