الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين :
لا أحد أكثر إحساناً إلى الإنسان بعد إحسان الله تعالى وإحسان رسوله عليه الصلاة والسلام من إحسان الأم إلى ولدها [حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ] {لقمان:14} فقرن سبحانه شكره بشكر الوالدين؛ لعظيم حقهما على أولادهما، وترجحت الأم على الأب بالحمل والولادة والرضاع والحضانة، ولها من الحقوق على أولادها ما يعجزون عن أدائه مهما فعلوا، ولكن على الأولاد أن يسددوا ويقاربوا، ويجتهدوا في بر أمهاتهم ما استطاعوا؛ ففي ذلك رضا الرحمن سبحانه، ونيل خيري الدنيا والآخرة..
ومن حقوق الأم على أولادها: إحسانهم إليها، والإحسان كلمة جامعة تجمع إيصال كل نفع إليها، ودفع كل ضر عنها، والمبالغة في ذلك؛ لأمر الله تعالى به [وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] {الإسراء:23} ووصيته سبحانه به [وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا] {العنكبوت:8} ومن ذلك حسن المصاحبة؛ لأنها أحق بها من غيرها، وأصل ذلك أنّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«يا رَسُولَ الله من أَحَقُّ الناس بِحُسْنِ صَحَابَتِي قال أُمُّكَ قال ثُمَّ من قال ثُمَّ أُمُّكَ قال ثُمَّ من قال ثُمَّ أُمُّكَ قال ثُمَّ من قال ثُمَّ أَبُوكَ» رواه الشيخان.
وحُسنُ صحبة الولد لأمّه عام فيجب أن يبذله لها في حال قوتها وضعفها، وفي حال عافيتها ومرضها، وفي حال شبابها وهرمها، وفي حال قدرتها وعجزها، وفي حال سفرها وإقامتها، وفي حال كونها مقيمة عنده أو بعيدة عنه.. وكل مرحلة من هذه المراحل لها صحبة تناسبها لا بد أن يؤديها الولد..
دخل رجل على ابن سيرين وعنده أمه، فقال:«ما شأن محمد يشتكي؟ قالوا: لا، ولكنه هكذا يكون إذا كان عند أمه». وقيل: كان رحمه الله تعالى يكلم أمه كما يكلم الأمير الذي لا ينتصف منه، وما ذاك إلا من توقيرها وتعظيمها وهيبتها.
ومن حسن صحبتها أن يحتمل غضبها وفظاظتها إن كانت فظّة غليظة، ويقابل ذلك بالحلم والصبر والسعي فيما يرضيها ولو أهانته أمام الناس فهي أمه، ولن يكون احتماله لغضبها وخطئها إلا رفعة له في دينه ودنياه، قال بكر بن عباس:«ربما كنت مع منصور بن المعتمر في مجلسه فتصيح به أمه، وكانت فظة غليظة، فتقول: يا منصور، يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى؟ وهو واضع لحيته على صدره، ما يرفع طرفه إليها».
ومن حسن صحبة الولد لأمّه أن يسعى في مصالحها، ويقوم على خدمتها، خاصة إذا احتاجت إلى ذلك لكبر أو مرض ، وفي قصة أصحاب الغار الثلاثة الذين انحدرت عليهم الصخرة فأغلقته فتوسلوا لله تعالى بصالح أعمالهم كان من أسباب التفريج عنهم أن أحدهم بالغ في خدمة والديه فأحضر اللبن لهما وقد ناما فمكث الليل كله واقفا به ينتظر استيقاظهما فسقاهما، واستقت أم ابن مسعود ماء في بعض الليالي، فذهب فجاءها بشربة، فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت بالشربة عند رأسها حتى أصبح.
وللسلف الصالح أحوال عجيبة في خدمة أمهاتهم والقيام على حاجاتهن، وتلبية مطالبهن، فكان أبو هريرة رضي الله عنه يلي بنفسه حمل أمه إلى المرفق -إي لقضاء حاجتها- وينزلها عنه، وكانت مكفوفة.
وقالت عائشة رضي الله عنها:« كان رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبرّ من كانا في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان رضي الله عنهما. فأما عثمان فإنه قال: ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت ، وأما حارثة فأنه كان يفلي رأس أمه ويطعمها بيده، ولم يستفهمها كلاماً قط تأمر به حتى يسأل من عندها بعد أن يخرج: ما أرادت أمي؟»
وعن الزهري قال:«كان الحسن بن علي لا يأكل مع أمه ، وكان أبرّ الناس بها، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن آكل معها، فتسبق عينها إلى شيء من الطعام وأنا لا أدري، فآكله، فأكون قد عققتها».