لم يكن بُدٌّ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رَحُبَتْ ، عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى أصحابه رضي الله عنهم؛ لأن البيئة في مكة المكرمة لم تعد صالحة لإتمام هذه الرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان هناك مخطّط في أعماق نفس النبي صلى الله عليه وسلم أن يحصل على بقعة أرض بديلة عن مكة ليقيم ويؤسس فيها مجتمعاً إسلامياً ومؤسسة إسلامية تنطلق منها الدعوة إلى الآفاق، والمشكلة التي كانت تواجه النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة هي صناديد قريش الذين كانوا يحملون قلوباً قاسية لا تتفاعل مع هذه الدعوة، مع صبر النبي عليه الصلاة والسلام وتحمله أذاهم، إلا أنه كان يواجه هذه العقبة الكؤود، فكان لا بد من الانتقال إلى أرض جديدة. وهذا فيما يسمى اليوم بالمصطلحات الجديدة "استراتيجية الهجرة"، أي النظرة البعيدة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام ينظر نظرة بعيدة المدى إلى أفق الدعوة الإسلامية؛ أين ستنتقل هذه الدعوة؟ وماذا ستَحمِل هذه الرسالة؟ وإلى أي بقاع الأرض ستُحمَل؟ فكان لا بد من تقييم البيئة المحيطة بالنبي صلى الله عليه وسلم والتفكير بأرض بديلة، مع استعراض كل الموارد والطاقات والثمرات التي ينبغي أن يُستفاد منها في الهجرة إلى مكة المكرمة.
^ مواقف متميزة من بعض من هاجروا قبل النبي عليه الصلاة والسلام:
بعد أن أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة، وبدأ أصحابه عليه الصلاة والسلام يهاجرون جماعات وفُرادى، لم يبقَ في مكة المكرمة إلا رسول الله عليه وسلم وقلة من أصحابه. وكان من أميز من هاجر من مكة إلى المدينة سيدنا "عمر بن الخطاب" رضي الله تعالى عنه الذي كانت هجرته هجرة عملية، كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم هاجروا سرّاً خشيةَ أن يُصابوا بأذى؛ لأن أهل مكة لم يكونوا يريدون أن تفرغ مكة من طاقات الشباب الفاعلة فيها، لذلك كانوا يقفون بالمرصاد لكل من يريد أن يفكر بالهجرة، فلما جاء دور سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه كما يقول سيدنا علي رضي الله تعالى عنه وكرّم وجهه في رواية هجرته: "ما علمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة تَقَلَّدَ سيفه وتَنَكَّبَ قوس، وأخرج سهماً من كنانته وجعلها في يده، وجعل عصاه على خصره، ومضى قِبَلَ الكعبة المشرفة والملأ من قريش بفِنائها، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلّى ركعتين، ثم وقف على الحِلق واحدةً واحدة، فقال لهم مُخاطِباً: شاهت الوجوه لا يُرغِم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو يُيَتَّم ولده، أو تُرمَّل زوجته فلْيَلْقَني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحدٌ إلا قومٌ من المستضعفين علّمهم ما أرشدهم إليه". هذا خطاب صريح وجريء في مواجهة صناديد مكة. ثمّ مضى متّجهاً نحو المدينة المنورة، وكان معه نحو عشرين رجلاً، منهم زيد بن الخطاب (أخو سيدنا عمر رضي الله عنه)، وهو أكبر منه سنّاً، وأسلم قبله، وشهدَ بدراً والمشاهد، واسُشهِد في موقعة اليمامة، وكانت راية المسلمين بيده، وحزن عليه سيدنا عمر حزناً شديدا، وكان يقول: "سَبَقَني إلى الحُسْنَيَين؛ أسلم قبلي، واستُشهِد قبلي". فسيدنا عمر رضي الله عنه كان يفكّر بالشهادة في سبيل الله، وكانت حلماً له، لذلك لمّا بشّره بها النبي صلى الله عليه وسلم كان على جبل أُحُد، حينما اهتزّ الجبل وكزه النبي صلى الله عليه وسلم بعصاه، وقال: "اُثبت أحد، فإنما عليك نبيٌّ وصدّيقٌ وشهيدان". صحيح البخاري. والشهيدان هما سيدنا عمر وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنهما.
هذا نموذج من الهجرة الجريئة، الهجرة في سبيل الله تعالى دون خوفٍ أو وجل، وفي هذا ردٌّ على من يقول: إن المسلمين هاجروا فراراً بأنفسهم. والدليل أن سيدنا عمر رضي الله عنه تحدّى أهلَ مكة، وهاجر علناً، معلناً ولاءه وانتماءه إلى الإسلام وإلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.