العطاء من الأسس العامة التي ترجع إليها مجموعة من الظواهر والمفردات الخلقية المحمودة [خلق حب العطاء] الذي يعد من عناصر علو الفطرة وسمو الطبع وارتقاء الإنسانية ورجاحة العقل.
ويأتي في مقابل هذا الأساس ضيق النفس وشعورها بالأنانية المفرطة التي ينجم عنها البخل والشح وكراهية العطاء، والرغبة بالاستئثار بكل شيء، والتسلط على كل شيء, وهي عناصر تدل على هبوط الفطرة ودناءة الطبع ونقص الإنسانية والحرمان من رجاحة العقل .
- إن أعظم درجات العطاء الذي لا حدود له، والذي لا يكون ابتغاء عوض، هو عطاء الرحمن جل وعلا؛ ولذا كان من أسمائه الوهاب الرزاق الكريم ؛ فعطاؤه فيضٌ لا ينقطع ولا ينتهي، قال تعالى: { إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود/108)، {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}(التين/6) عطاءٌ غير مجذوذ وغير ممنون أي غير مقطوع.
ـ وهذا العطاء هو عطاءُ ابتلاءٍ واختبار في الدنيا، وعطاءُ جزاءٍ وفضلٍ عظيمٍ في الآخرة؛ فالله سبحانه يختبرنا بعطائه، وهذا الابتلاء يتجسد في آيات كثيرة منها:
- {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}(الإسراء/18).
- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ }(الماعون1/2/3).
- {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}(التكاثر/8).
{ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فسنيسره لليسرى}(الليل/6) ؛ أي أن هذا الخلق هو أحد أسباب الفرج ولذلك قال في نهاية السورة [ ولسوف يرضى] .
- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ }(الأنفال/72).
- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}(الأنفال/74).
وتأملوا في ختام الآية [ لهم مغفرة و ورزق كريم] وصف الرزق بأنه كريم جزاء من جنس العمل؛ فالذين ضحوا بأموالهم هجرةً وجهاداً؛ إيواءً ونصرةً لهم رزق كريم على كرمهم وعطائهم، لأن عطاء الله لا يساويه عطاء .
فما هو الكرم: الكرم ضد اللؤم؛ وهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر من الإنسان الكريم؛ فلا يقال هو كريم حتى يظهر منه ذلك؛ وتأملوا في قوله تعالى : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتقَاكُمْ }(الحجرات/13).
فالكرم هو الأفعال المحمودة،؛ وأكرمُها ما يُقصد به أشرف الوجوه، وأشرف الوجوه ما يُقصد به وجه الله تعالى، فمن قصد بها ذلك فهو التقي؛ فإذاً أكرمُ الناس أتقاهم.
وكل شيء يَشْرُفُ في بابه يوصف بالكريم نحو قوله تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}(الواقعة/77) {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}(الشعراء/7)؛ وأرض مَكْرمة أي كريمة طيبة، والكريمان هما الحج والجهاد، والإكرام والتكريم أن يوصل إلى الإنسان نفع لا تلحقه فيه غضاضة أو إهانة؛ ولعظم هذا الخلق ومكانته : وردت مادته في القرآن على اثني عشر وجهاً نذكر بعضها لنتحلى بحب العطاء والبذل :
1- بمعنى الأشرف والأفضل:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات/13)
2- بمعنى العزيز العظيم: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .
3- بمعنى المزين والمحسن:{ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا}(النساء/31).
4- بمعنى الشيء الغريب العجيب : {إنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}(النمل/29).
5- بمعنى المنظوم المعجز: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}(الواقعة/77).
6- بمعنى جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}(الحاقة/40).
7- ملائكة الملكوت:{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍبَرَرَةٍ}(عبس15/16).
8- بمعنى الملائكة الموكّلين ببني آدم: {كِرَامًا كَاتِبِينَ}(الإنفطار/11)
9- بمعنى التفضل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء/70) 10
10- بمعنى يوسف {إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}(يوسف/31). (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم) يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم.
11- بمعنى الذليل المَهِين على سبيل التهكم: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}(الدخان/49)
12- بمعنى العظيم: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الإنفطار/6).
وختاماً أقول لنكن كرماء رحماء مع الضعفاء والفقراء والمنكوبين ليس تفضلاً ومنةً؛ بل واجباً دينياً لأن الله في الآيات السابقة ربط الإيمان والدين بمقدار العطاء والبذل وربط التقوى بالكرم .