قال الله تعالى في كتابه الكريم: ((يا يحيى خذ الكتاب بقوة )) "مريم 16".
قال القرطبي المفسر 11/59 : يعني بجد و اجتهاد, وفي سورة طه يقول الله تعالى على لسان موسى عليه السلام الآية 85 ((و عجلت إليك ربِّ لترضى )).
وقد قام عليه الصلاة والسلام في الليل حتى تفطرت قدماه /يعني تورمت ثم تشققت/رواه البخاري.
ودعا إلى الله حتى وافاه الأجل, وبلّغ العلم والعمل, ألا هل بلغت اللهم فاشهد... بهذه الهمة أقبل سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم على ربه.
وعندما يتحدث القرآن عن أمور الآخرة يدعو إلى المسارعة والمسابقة و علو الهمة:
(( سابقوا إلى مغفرة من ربكم )) "الحديد21" (( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة )) "آل عمران 133" (( فاستبقوا الخيرات )) "المائدة 48"
(( والسابقون السابقون أولئك المقربون )) "الواقعة 10".
فحديث الآخرة فيه مسابقة ومسارعة.... بينما حديث الدنيا فيه مشي....
قال الله تعالى: (( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه )) "الملك15 ".
وحديثنا اليوم حديث عن صور من علو الهمم في إقبال سلفنا الصالح على الله تعالى وحكايات من بذلهم الغالي والرخيص في سبيل نيل رضا الله تعالى في تعلمهم العلم أو في عبادتهم أو في تعليمهم أو في دعوتهم إلى الله , والحكايات جند ٌ من جنود الله يثبت الله بها قلوب أوليائه.
يقول الإمام أبو حنيفة (( الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحبُّ إليّ من كثير من الفقه لأنها آداب القوم وأخلاقُهم )).
وروى سفيان بن عيينة أنه عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة , وعلماء هذه الأمة( لاشك) هم أصلح صلحائها .
واليوم نريد شحذ همم الدعاة للإقبال على الله , خصوصاً في هذا الزمن الذي تطغى فيه المادة على الروح , وتتطاول فيه ثقافة الأرض على تعاليم السماء.
قال ابن الجوزي في كتابه النافع "صيد الخاطر " (1/178) :
(( من علامة كمال العقل:علوُ الهمة , والراضي بالدون دَني...وما ابتلي الإنسان قطُّ بأعظمَ من علوِّ همته , فإن مَنْ علت همته يختار المعالي, وربما لا يساعد الزمان وقد تضعف الآلة فيبقى في عذاب...ومن رُزِقَ همة عالية يُعذّب بمقدار علوها )).
كما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
واعلموا أيها الأخوة الدعاة: (( أن العبد يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه...فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغُ المتثاقلُ إلى لأرض )) انظر بدائع الفوائد 1/142
ولذلك قال أهل التربية الروحية: هذا الأمر ( يعني الوصول إلى الله) لا يُنال إلا ببذل الروح.
وقالوا:لا يُعبأ بالمريد إذا لم يبذل روحه في الطريق .
وقالوا : ملتفت لا يصل.وقالوا:من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة .
وقالوا:العلم والعمل توأمان أُمُهما علو الهمة.
هذا , وإن من مكائد الشيطان أن يثبط الهمم و يثقل على الإنسان الواجبات والسنن , لكن العبد إذا ذكر ما
يقرأ في سورة الفاتحة (( إياك نعبد وإياك نستعين )) عَلِمَ أن المعونة قادمة من الله في العبادة إذا صحت النية والعزيمة. وحدثوا عن عطاء بن أبي رباح وهو من سادات التابعين فقهاً وعلماً و ورعاً و فضلاً و إتقاناً
(ت 115 هـ), قالوا:كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة, وكان من أحسن الناس صلاة, وحج
عطاء أكثر من سبعين حجة , وكان أسودَ...أعورَ...أفطسَ...أشلَ...أعرجَ...ثم عميَ...
( تاريخ الإسلام للذهبي ).
وجاء في تذكرة الحفاظ وتهذيب التهذيب 5/334 في ترجمة الإمام عبد الله ابن المبارك (ت 181 هـ) قالوا:جمع العلم والفقه والأدب و النحو واللغة والشعر والفصاحة والزهد والورع والإنصات وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والفروسية والشجاعة والشدة في بدنه تركَ الكلام في ما لا يعنيه, وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم.
وقال علي بن الحسن بن شقيق:قمت مع عبد الله بن المبارك في ليلة باردة ليخرج من المسجد, فذاكرني عند الباب بحديث وذاكرته, فما زال يذاكرني حتى جاء المؤذن فأذن للفجر. وحكوا عن دقيق ورعه أنه استعار قلماً من رجل بالشام وحمله إلى خراسان ناسياً , فلما وجده معه رجع إلى الشام حتى أعطاه لصاحبه.
وسفيان بن سعيد الثوري (ت 161 هـ) إمام المسلمين أمير المؤمنين في الحديث .قال عنه قبيصة بن عقبة:ما جلستُ مع سفيان مجلساً إلا ذكر الموت , وما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه. وصلى سفيان العشاء الآخرة يوما ًفقال لتلميذه يوسف بن أسباط: ناولني المطهرة ، فناوله إياها فأخذها باليمين ووضع يساره على نحره, ثم ذهب يوسف فنام فاستيقظ وقد طلع الفجر , يقول يوسف:فنظرت فإذا المطهرة بيمينه كما هي...
قلتُ: هذا الفجر قد طلع , فقال:لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في أمر الآخرة (تهذيب الكمال 11/167). وهذا سفيان بن عيينة يقول للحسن بن عمران بِجُمَع في آخر حجة حجها:قد وافيت هذا الموضع سبعين مرة أقول في كل سنة "اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك , فرجع فتوفى في السنة الداخلة. (تهذيب التهذيب 4/106)
وإني نظرت في كتب تراجم الرجال فوجدت القوم مشتركين بأمرين: العلم و العبادة ،ولهم فيهما علوَ همة ٍ يكاد لا يُصَدَّق.
فيذكرون مثلاً في ألقاب هؤلاء العلماء في ترحالهم لطلب العلم: الإمام الرحالة...الإمام الجوال...الإمام الطواف...إشارة إلى طوافه في الأرض بحثاً عن العلم,طاف الأرض أربع مرات , دوُّخ الدنيا في طلب العلم , طاف الدنيا من مشرقها إلى مغربها على قدميه.
ويذكرون في ألقابهم في العبادة:فلان المصحف...السجّاد...البكّاء...ويعدون أسماء شيوخ كل منهم عدداً تقضي منه العجب.
ذكروا مثلاً أن عدد شيوخ الإمام مسلم 220 شيخاً, والإمام أحمد بن حنبل 292 شيخاً, والإمام مالك 900 شيخ وعبد الله بن المبارك 1000شيخٍ, والبخاري 1080 شيخاً, وشمس الدين الذهبي 1300شيخ .
بل إن المسلمين أنشأوا نوعاً من الكتب اسمه ( كتب المشيخات ) يذكر فيه مؤلفه أسماء شيوخه وطرفاً من الأشياء التي تعلمها عنهم. ويبلغ عدد صحائف كتب المشيخات ثلاثمائة صحيفة يزيدون أو ينقصون, كلها مليئة بأسماء الشيوخ، كلُّ هذا علو همة في الإقبال على الله تعالى.
قال السيوطي في الإتقان متحدثاً عن قراءة القرآن 1/325 :((كان للسلف في قَدْر القراءة عاداتٌ:فمنهم من كان يختم في اليوم والليلة ثلاثاً ومنهم من يختم ختمة , ويلي ذلك من كلن يختم في ليلتين, ويليه من كان يختم في كل ثلاث وهو حسن , و يليه من ختم في أربع... ثم في خمس... ثم في ست... ثم في سبع..., وهذا أوسط الأمور وأحسنها , وهو فعل أكثر الصحابة و غيرهم.
أخرج ابن أبي داود عن مكحول: كان أقوياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرؤون القرآن في سبع وبعضهم في شهر وبعضهم في شهرين )).
وممن كان يختم في ليلتين مسعر بن كدام كان لا ينام كل ليلة حتى يقرأَ نصفَ القرآن ويقول:لولا أمي ما فارقت المسجد – كان يخدمها وكان إذا دخل بكى وإذا خرج بكى وإذا صلى بكى وإذا جلس بكى, ومع كل هذا دخل عليه سفيان الثوري في مرض موته فقال له: ما هذا الجزع مسعر والله لوددت أني متُ الساعة, فقال له مسعر:إنك إذاً لواثق بعملك يا سفيان لكني والله كأني على شاهق جبل لا أدري أين أهبط, فبكى سفيان...
ومراراً قرأت في كتب التراجم عبارةً مفادُها أن هذا الرجل صلى الصبح بوضوء العشاء سنوات, وعبارةً أخرى فيها:لو قيل له إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً (تهذيب لتهذيب 3/13 ).
قال أبو إسحاق السبيعي (ت 127هـ) وهو من جلة التابعين : يا معشر الشباب اغتنموا قوتكم وشبابكم , قلّما مرت بي ليلةٌ إلا وأنا أقرأ فيها ألف آية , وإني لأقرأ البقرة في ركعة , وإني لأصوم الأشهرالحرم وثلاثة أيام من كل شهر , والاثنين والخميس. (سير أعلام النبلاء 5/395 ).
قال الشاعر:
و لم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
نسألك اللهم أن ترزقنا علو الهمة في الإقبال عليك , و إخلاص القصد في التوجه إليك,
وصلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه وسلم.