خطب مدير الأوقاف

فقرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم اختياريٌ

الشيخ أحمد سامر القباني


فقرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم اختياريٌ

23 من جمـــادى الأولـى 1439 هـ - 9 من شــــباط  2018 م.

الحمد لله، الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا الدين القويم، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، حمداً لك ربي على نعمائك، وشكراً لك على آلائك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله ولا شيء بعده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صفيه من بين خلقه وحبيبه، خير نبي اجتباه وهدى ورحمة للعالمين أرسله, أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.

وبعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى، وأحثكم وإياي على طاعته، وأحذركم ونفسي من عصيانه ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير.

فضمن المنهج العام لخطب الجمعة نتحدث -أيها الإخوة المؤمنون- عن حسن الخلق، ورأينا أنَّ الأخلاق جزء مِن الإيمان، ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)).

الأخلاق هي سبب رئيس لبعثة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))، أو ((لأتمم مَكارم الأخلاق)).

وتكلمنا عن علامات حسن الخلق:

فالعلامة الأولى: بسط الوجه، وهو أن يكون الإنسان مبتسماً مستبشراً لطيفاً ظريفاً، مُيسراً على الناس غير معسر، فهكذا كان سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.

والعلامة الثانية: بذل المعروف، فهو علامة كبيرة من علامات حسن الخلق، والمعروف كلمة شاملة لا تتوقف على بذل المال وإنفاقه فحسب، فالعطاء عطاء المال، وعطاء العلم والمعرفة، وعطاء الجاه والحسب والنسب، وعطاء الخدمة للمسلمين.

وقلنا -أيها الإخوة-: إن بذل المعروف يجب أن يتصاحب مع الإخلاص لله عز وجل، أن لا يكون مِن أجل سمعة بين الناس، ولا أن يكون الإنفاق رياء أمامهم.

وقلنا: إنَّ بَذل المعروف يَجب على صاحبه -مَن يبذل المعروف- يَجب عليه أن يَشكر الله عز وجل، لأن الله جعل يده عليا ولم يجعل يده سفلى، جعله مُنفقاً لا آخذاً، جعله مُتكرماً لا مستعيناً بالناس وسائلاً لهم.

وإن بذل المعروف يجب أن يكون فيه إخلاص لله عز وجل في الإنفاق، وأن ينفق مِن غير الزكاة، فإن في المال حقاً سوى الزكاة، وبذل المعروف عندما يَقوم به صاحبه يجب أن يَنوي فيه التَّأسي بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يَعلم الإنسان المنفق أنه عِندما يتكرم على النَّاس فإنه يَأخذ صِفة مِن صفات الباري سبحانه وتعالى، فالله عز وجل الأكرم، وهو الأجود سبحانه وتعالى، ويأخذ مِن صفات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكما سَمعتم عن سيدنا عبد الله بن عباس وعن سيدنا أنس رضي الله تعالى عنهم أجمعين: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس).

واليوم نُكمل الحديث عن جود وكرم سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.

سائل يَسأل: ألم يَرِد في الحديث عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، أنَّه كان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يُوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فَسألها سائل قال لها: ما كان طعامكم؟ قالت: (الأسودان: التمر والماء)، وهذا مِن باب التغليب في اللغة العربية، غلبت لون التمر على الماء لأن الماء لا لون له، طعامنا الأسودان: التمر والماء، هلال ثم هلال ثم هلال، إن شئت فَقُل: ثلاثة أشهر، وإن شئت فقل: شهر ونصف، أول الشهر وآخره ثم يأتي بعد ذلك الهلال، شهران لا يُوقد نار أي لا يُطبخ في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان طعامكم؟ الأسودان: التمر والماء.

الحديث الثاني: جاء سائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطني، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت زوجاته بيتاً بيتاً إلى كل زوجة مِن زوجاته يأتي خادم رسول الله فيطرق الباب، ما عندكم؟ يريد رسول الله أن يُضيف ضيفاً، فيأتي الجواب: والله ما عندنا شيء، ما عندنا شيء، كل بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك جاء الخادم فأخبر رسول الله: لا يوجد شيء بكل بيوتك، فالتفت إلى أصحابه وقال: ((مَن يُضيف هذا الليلة يرحمه الله؟))، فقال سيدنا أبو طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أنا أضيفه يا رسول الله، في مِن أحد يُذهب دعوةً مِن سيدنا الرسول بالرحمة؟! ((مَن يُضيف هذا الليلة يرحمه الله؟))، يا سلام ما هذا الدعاء الحلو! أنا فوراً يقول سيدنا أبو طلحة الأنصاري، قال: فأخذه إلى بيته، فقال لزوجته أم سليم الرُّمَيصاء بنت ملحان قال لها: ما عندنا؟ قالت: والله ما عندنا إلا طعام الصِّبية، قال: عَلِّلِيهِم حتى يناموا، قالت: ولكن الطَّعام لا يَكفي إلا للضيف، فقال لها سيدنا أبو طلحة: إذا وَضَعتِ الطَّعام فقومي فَتَظَاهري أنَّك تُصلحين السِّراج -ضوء الكاز- فأطفئيه، فنتظاهر أننا نأكل مع الضيف، فيأكل الضيف الطعام كله ولا نأكل، ففعلت كما قال لها: عَلَّلَت الصِّبية فناموا، ثم بعد ذلك قامت تتظاهر بإصلاح السِّراج فأطفأته، فتظاهرا بالأكل مع الضيف فلم يأكلا، باتا طاويين جائعين، فأكل الضيف حتى شبع وحمد الله، ثم غدا سيدنا أبو طلحة رضي الله تعالى عنه مع ضيفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ، ضحك رسول الله وقال لسيدنا أبي طلحة: لَقَد عَجِبَ الله، وفي رواية: لقد ضَحِكَ الله مِن صَنعكما بضيفكما الليلة، ربنا مِن فوق سبع سماوات سبحانه وتعالى -تعالى عن الجهة والمكان- ضَحِكَ مِن هذا الصَّنيع.

هذه لَيست قِصَصَاً خُرافية أيها الإخوة، إنها قصص النَّبي مع صحابته أهل الكرم والجود، والشاهد في الحديث موقف سيدنا أبي طلحة، ما عنده إلا طعام صبيته، أطعمه للضيف، جُود وكرم عالٍ جداً، والشاهد في الحديث الذي سُقته لأجله ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء في كل بيوت زوجاته، فقال لِصحابته: ((مَن يُضيف هذا الليلة؟))، ما عنده شيء يُضيف ضَيفه سيدنا الرسول!.

طيب أصبح عندنا الآن حديثان، هناك أكثر مِن ذلك، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فقيراً في بيته ما عنده طعام، وكذلك أخرج الترمذي وأحمد عن سيدنا أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عرض علي ربي لِيجعل لي بطحاء مكة ذهباً))، جبال مكة وهضاب مكة عَرَضَ عليه اللهُ أن يجعلها كلها ذهباً، ((فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك))، يَجوع يوماً ويشبع يوماً، إذاً رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبر سيدنا أنس في الحديث عن الترمذي وابن حبان: (كان النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئاً لغد)، كل ما عنده ينفقه على الفقراء والأرامل والأيتام والمساكين وعابري السبيل، لا يَدَّخر شيئاً لغد.

البخاري في صحيحه أخرج عن سيدنا عقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر، تعرفون أنتم أنَّ سيدنا الرسول يَجلس في مَكانه في مُصلاه، وهو الذي أمرنا بذلك، لكي نقرأ الأذكار بعد الانتهاء من السلام، نقرأ الأذكار والأوراد، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: ((ما تَزال الملائكة تُصلي على أحدكم ما دام في مصلاه حتى يُحدث))، حتى يكون منه حَدَث، يعني حدث أصغر، يَخرج منه شيء، أمَّا ما عدا ذلك تُصلي عليه الملائكة ما دام في مكانه الذي جلس فيه، فيومها رسول الله ما قرأ ورداً ولا قرأ ذكراً، قال سيدنا عقبة: فلما سلم قام سريعاً، فدخل على بعض نسائه ثم خرج، ثم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وُجوه القوم مِن تعجبهم لسرعته، خالف العادة حيث كان يجلس ربع ساعة سيدنا الرسول في مُصلاه، فلما رأى تعجبهم قال لهم رسول الله -يُبين لهم لماذا قام مُسرعاً- قال: ((ذَكرت وأنا في الصَّلاة تِبراً عندنا))، أي ذهباً عنده، ((ذكرت وأنا في الصلاة تبراً عندنا، فكرهت أن يُمسي -هذا الذهب- فَكَرِهت أن يُمسي أو يَبيت عندنا، فأمرت بقسمته)).

إذاً رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على هذه الأحاديث كان فقيراً، ليس عنده أحياناً قوت يومه وليلته، وبناء على ما قاله سيدنا أنس كان لا يَدخر شيئاً لغد، وبناء على هذا الحديث قام فتصدق، فهذا هو السؤال: كيف كان رسول الله أجود الناس وكان فقيراً؟.

والجواب أيها الإخوة: أنَّ فقر النبي صلى الله عليه وسلم كان اختيارياً.

الفقر نوعان:

1- فقرٌ جبري: وهو الذي لم يُوسع له في رزقه، إنسان فقير عاش حياته فقيراً، والده فقير وهو فقير، سعى في سُبل الحياة كثيراً وجاهد وناضل، ولكن الله عز وجل لم يُوسع عليه في رزقه لحكمة يعلمها الله، ((إن مِن عبادي مَن لا يصلح له إلا الفقر-حديث قدسي- فإن أغنيته أطغيته))، حديث قدسي عن الله عز وجل، ولكن نبشر هذا الإنسان الفقير أنَّه قبل أهل الغنى بمئات السنين يدخل الجنة، يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بمئات السنين، فيعني الحمد لله إذا لم تستقم لك الدنيا فإن الآخرة هي أفضل بكثير، والحديث الوارد عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف وهو ممن بَشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقال: ((وعبد الرحمن بن عوف في الجنة))، دخلت عِير له، آلاف مِن الإبل مُحَمَّلة بالتجارات، لأنه كان ملياردير سيدنا عبد الرحمن بن عوف، فَضَجَّت المدينة بهذا، فسألت السيدة عائشة: ما الذي حدث؟ قالوا: هي عير عبد الرحمن بن عوف دخلت المدينة، فقالت: يَرحم الله عبد الرحمن بن عوف، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّه يَدخل الجنة حبواً)، يدخل على الجنة لكن زَحفاً، فلما بلغه ذلك قال: والله لأدخلنَّها إن شاء الله قائماً، ثم جعلها كلها في سبيل الله، إذا كانت هذه التجارة سأحاسب عليها لا أريدها كلها، فجعلها في سبيل الله، ولعلمكم كان مال سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وتجارته إذا دخلت المدينة لا يَبيع منها شيئاً، أولاً: يَقضي ديون المهاجرين والأنصار، لأن هؤلاء مدحهم القرآن، هؤلاء كانوا سبب قوة هذا الدين، هم السبب في بدايته، ليس الإنسان الذي له سبق في خدمة الدين كالإنسان الذي جاء مُتأخراً ولم يخدم، لَيس هناك تَسوية بين مَن أفنى حياته في خدمة دين الله وبين مَن لم يُساهم في خدمة دين الله وخدمة الناس، لا يستوون وهكذا، ﴿وَالسّابِقونَ الأَوَّلونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ﴾ ]التوبة: 100[، هكذا قال القرآن: ﴿وَالسّابِقونَ الأَوَّلونَ﴾، لا يستوون أبداً، فكان يقضي ديونهم، وينظر في حوائج الأرامل والأيتام، ثم ما فَضَلَ مِن ماله يبيعه، ومع ذلك قال للسيدة عائشة: (إن شاء الله لأدخلنها إن استطعت قائماً)، فما باع منها شيئاً، كل هذه التجارة التي دخلت في سبيل الله، أيتام ومساكين وأرامل.

والشاهد في الموضوع أنَّ فقراء المسلمين يدخلون قبل أغنيائهم، لكن لحكمة يعلمها الله، هذا فقر جبري ليس بيده، هذا الإنسان فقير.

2- فقرٌ اختياري: وهو فقر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله له خُمُس الغنائم، ﴿وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّـهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى﴾ ]40[ في سورة الأنفال، فَخُمُس الغنائم لرسول الله، فكان يأتيه المال الكثير، هو رسول الله، كان لا يدخر، فقره كان اختيارياً، خرج مِن الصلاة مُسرعاً لأنه تَذَكَّر تِبراً عنده، فقام فقسمه، أمر بقسمته لئلا يَبيت عنده، عَرَضَ عليه رَبُّه أن يجعل له بطحاء مكة ذهباً، فقال: (لا يا رب، ولكن أجوع يوماً وأشبع يوماً)، فَمَن يَسأل: كيف كان رسول الله أجود الناس وكان فقيراً؟! نقول له: ما دخل مِن الأموال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير الكثير، آلاف مؤلفة مِن الإبل والشياه والجياد، آلاف مؤلفة يعني ملايين، ألف ألف معناها مليون، ملايين مِن الدنانير الذهبية، وآلاف الألوف يعني ملايين مِن الدراهم، كان يَبيت وليس عنده شيء مِن متاع الدنيا، ففقر رسول الله كان اختيارياً وليس جبرياً، وهل هناك إنسان كرسول الله صلى الله عليه وسلم، تأتيه كل هذه الأموال ثم بعد ذلك ينتقل للرفيق الأعلى ودرعه مرهونة عند يهودي؟! مَا هذا؟ علمتم لماذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس؟ كل ما يأتيه في سبيل الله، كان أجود الناس صلى الله عليه وسلم.

أخرج البيهقي في شعب الإيمان، عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، يقول سيدنا أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل تدرون مَن أجود جوداً))،تعرفون مَن أكثر أكثر أكثر شيء كرماً وجوداً قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((الله جل جلاله أجود جوداً))، يوجد أكرم مِن الله؟! جِئنا إلى الدنيا عراة فكسانا الله، جاهلين فعلمنا الله، جَوعى فأطعمنا الله، عطشى فأروانا الله، علمنا مِن لَدنه سبحانه وتعالى وكرمنا بين الناس، كل ما عندك الآن هو بفضل الله، وكلكم يقرأ قوله تعالى: ﴿وَما بِكُم مِن نِعمَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ﴾ ]النحل: 53[، لأن الله يرزق مَن يؤمن به ومَن لا يؤمن به، والله أنت إذا إنسان تُعاديه لا تُعطيه ولا قرش، تعطيه قرش؟ قل لي: إنسان يُعاديك أينما ذهب يتحدث عنك بالسوء ما تعطيه شيئاً، ربي كريم جواد سبحانه وتعالى، ((الله جل جلاله -يقول رسول الله- أجود جوداً، ثم أنا أجود بني آدم))، هذا كلام صريح، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثم أنا أجود بني آدم، وأجودهم مِن بعدي -وأرجو أن تحفظوا هذه الفقرة-الله أجود جوداً، ثم أنا أجود بني آدم، ثم أجود بني آدم من بعدي -من؟ قال عليه الصلاة والسلام:- رجل عَلَّم عِلماً فنشره، يأتي يوم القيامة أميراً وحده))، وفي رواية أو الراوي شَكَّ سيدنا أنس قال أو قال رسول الله: ((أمة وحده))، رجل تعلم عِلماً فنشره، يأتي يوم القيامة أمة وحده، لذلك قلنا: العطاء والبذل -بذل المعروف- لا يتقيد بالمال، العلم المعرفة الجاه الحسب النسب، اُبذل كل ذلك في خدمة الناس وفي سبيل الله، وانظر كيف يُعطيك الله عز وجل مِن عطائه، ربما يتأخر العطاء لكنه سيأتي، وملاك الأمر كله -أيها الإخوة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس، وكان فقره اختيارياً ولم يكن جبرياً، فانظر إلى جود وكرم النبي صلى الله عليه وسلم، وملاك الأمر كله أن الإنسان الذي يَبذل ماله وجاهه في خدمة الناس، والذي يخدم الناس بصنعته ومهنته ومعرفته، ويسير في قضاء شؤونهم؛ هو عند الله عز وجل مُكَرَّم جداً، لأن الله يتولاه، ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))،ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ومن ستر مسلماً ستره الله))، لذلك مِلاك الأمر كله الجود والكرم.

أخرج الترمذي في سننه، عن سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((السَّخي -الكريم- قريب مِن الله قريب من الناس بعيد من النار))، الله يُحبه الكريم، والناس تحبه، وهو بعيد عن النار، ((والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار، ولجاهل سَخِيٌّ أحبُّ إلى الله عز وجل مِن عابد بخيل))، جاهل لكن طائع لله، سخي كريم، أحب إلى الله عز وجل مِن عابد ليلاً نهاراً يُصلي ويصوم لكنه بخيل، الله يُحب الجاهل الكريم أكثر مِن العابد البخيل.

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مِن يُوم يُصبح العباد فيه إلا مَلكان ينزلان، فيقول أحدهما -كل صبح لا مقطوعة ولا ممنوعة، كلام رسول الله، كل صبح ملكان ينزلان مِن السماء- يقول أحدهما: اللهم أعطِ مُنفقاً خلفاً، -يا رب كل واحد يُنفق أخلف عليه- ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسكاً -يعني بُخيلاً- تَلَفَاً))، يعني إن شاء الله يتلف هو وماله وصحته وعافيته وماله، البَخيل قريب من النار يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن سيدتنا أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أسماء لا تُوكي -أي لا تبخلي، لا تمنعي ما معك مِن المال الفقراء والمساكين- لا توكي فيوكأ عليك))، أي فَيُشدد عليك في رزقك، إذاً المعادلة معروفة، تمنع يُمنع عنك الرزق، تُنفق يُنفق الله عليك، ((يا أسماء لا تُوكي فيوكأ عليك، وأنفقي ولا تُحصي فيحصي الله عليك))، أنفقي دون إحصاء، طبعاً بعد الزكاة، الزكاة إحصاء، فوق الزكاة لا تحصي فيحصي الله عليك.

ونختم هذه الخطبة بقول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل -حديث قدسي-: عبدي، أنفق أُنفق عليك، يد الله مَلأى))، خزائنه سبحانه وتعالى مليئة، ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ ]المائدة: 64[، يقول الله عز وجل: ((يَدُ الله ملأى لا تَغيضها نفقة، لا تُنقصها نفقة، سحاء الليل والنهار))، الليل والنهار ظرف زمان، هي سَحَّاء سَخِيَّة على الناس، فهناك عطاءات إلهية ليلية، وهناك عطاءات إلهية نهارية، ((عبدي أنفق أُنفق عليك، يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار)).

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم مِن عباده أهل الجود والكرم، الذين يبذلون معروفهم لخدمة الناس وخدمة المسلمين ولرفعة هذا الدين، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، استغفروا الله يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين.


Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=381&id=5112