كلمة الأسبوع

ذكر الله ذلك الجانب المنسي في حياة أكثر المسلمين اليوم

الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي


ذكر الله ذلك الجانب المنسي في حياة أكثر المسلمين اليوم

ما وقفنا على آية يواسي فيها الله عز وجل رسوله أمام شدة انتابته، إلا ويدعوه فيها إلى علاج من ذكر الله تعالى. ألم يقل فيما تنزل عليه: {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 3

 

ألم يقل {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﴿24﴾ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان:24-25].

 

وما رأيته يتحدث عن جيش من الأعداء، يحدقون بالمسلمين ويبحث المسلمون عن علاج آنذاك يحررهم من ذلك البغي والعدوان إلا ويضع كتاب الله تعالى ذكره عز وجل في مقدمة هذه العلاجات كلها

ألم يقل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45

ثم إننا نقرأ ما يشبه الدستور التام الجامع لهذه الحقيقة الكونية الكبرى في الآية ، وهي قول الله عز وجل: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205

هذا إلى جانب ما ألاحظ، من إعراض كثير من المسلمين عن هذه الضرورة الكبرى التي يوصي بها الله تعالى عباده، صباح مساء

فهذا ما حملني على معالجة هذا الموضوع وبيانه وتحليله، لعلنا نتنبه بذلك إلى الضرورة التي أمرنا الله أن نتنبه إليها

ولكني أقول أيضاً: أليس في القناعة العقلية بما تنزل من عند الله عز وجل من حقائق الإيمان، ما يغني عن الذكر والمداومة عليه؟ أليس في العقيدة التي مركزها العقل ما يجعل العقل خير هاد للإنسان إلى صراط الله عز وجل؟.. وهل بعد ذلك من ضرورة تدعو إلى وضع ذكر الله عز وجل في هذه المرتبة الفريدة العليا؟

غير أني عرفت الجواب عن هذه الأسئلة، من خلال القاعدة العلمية التي ما زال علماء النفس والتربية يرددونها، وهي أن انقياد الإنسان لعواطفه الإنسانية، أشد وأقوى من انقياده لقراراته وقناعاته العقلية

فكلما قام تناقض بين يقين عقلي اصطبغ به الفكر، وهوى من أهواء النفس يصبو إليه الوجدان، فإن الغلبة، في الغالب، إنما تكون لهوى النفس.. تلك الحقيقة كانت ولا تزال علمية ومدروسة

ومن هنا كانت الحاجة على التربية، إذ التربية مهما تطورت وتنوعت، ومهما اختلفت سبلها وفنونها، فإنما هي على كل حال عبارة عن السعي إلى تطويع العاطفة لقرار العقل

ولولا أن العاطفة هي تهتاج بصاحبها دائماً، وتدعوه إلى أن يقفز فوق قناعاته العقلية، لما كانت ثمة حاجة إلى التربية قط

وهنا قد يتساءل الإنسان: فإذا وقف أحدنا أمام مفترق طرق بين يقين عقلي يدعوه إلى اتباع صراط الله عز وجل، وبين أهواء وعواطف وشهوات جامحة تجمح بكيانه، ورأى أن الغلبة إنما هي لهذه العواطف والأهواء، إلى من الملاذ؟ وكيف السبيل إلى أن يتحرر من عواطفه وأهوائه، لينقاد إلى قرار عقله؟

 

الملاذ هو ذكر الله عز وجل......!

 

عندما تتنوع التربية عند علماء التربية، ويتفننون في بيان السبل إليها، فإن السبيل إلى أن ينقاد الإنسان ليقينه العقلي ولقراره الاعتقادي متحرراً من شهواته وأهوائه، إنما هو المداومة على ذكر الله عز وجل

وأنا لا أعني بذكر الله تعالى يرددها اللسان، وإن كان ذلك يسمى ذكراً ويثاب الإنسان عليه. بل إننا لنعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال لسابك رطباً بذكر الله )))

ولكن تحريك اللسان بالذكر، إنما هو سبيل إلى غاية، والغاية يقظة العقل والقلب وتوجه كل منهما إلى التأمل في عظمة الله عز وجل، وامتلاء الوجدان بصفات الربوبية في ذاته عز وجل

ومن ثم يقول الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205]

 ثم يؤكد هذا المعنى ثانية فيقول: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}

فهذا هو الدواء الذي لا دواء من بعده ولا من قبله.. هو الدواء الذي يحرر الإنسان من رق أهوائه، ويجعله منقاداً لقناعاته العقلية ولإيمانه الفكري

 

وأنا أستأذنكم يا مولاي أن أزيد هذه المسألة إيضاحاً وتحقيقاً إن أمكن

 

نحن نعلم أن الإنسان، كما قال العلماء قديماً، ثلاثي التركيب. أي إنه مركب من هذا القفص الجسدي الذي لا قيمة له في الحقيقة، ثم إنه مركب أيضاً من جملة غرائز أرضية حيوانية تهتاج به، وتدفعه إلى كثير من الشهوات والأهواء، ولذلك حكمة ووظيفة لا مجال لشرحها هنا. ثم إنه مركب من عنصر ثالث، هو هذه الروح التي هي سر من أسرار الله عز وجل. هذا السر الذي  إذا أشرق على الدماغ تكون منه الفكر والوعي، وإذا أشرق على عضلة القلب تكونت منه العاطفة والوجدانيات الدافعة والرادعة والممجدة. أي عاطفة الحب، والتعظيم والخوف. وإذا أشرقت أو انعكست هذه الروح على الخلايا تكون من ذلك الشعور والإحساس

وهكذا فإن مصدر الوعي في الدماغ والعواطف في القلب والإحساس الساري في كل انحاء الجسد، واحد، ألا وهو الروح

هذه الروح هابطة من الملأ الأعلى، وليست خارجة من الأرض ولا من تراب الأرض

ثم إن هذه الروح تظل في حنين دائم إلى العالم العلوي الذي أهبطت منه. أجل.. ألم يقل الله عز وجل خطاباً للملائكة عن سيدنا آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] إنها روح منسوبة إلى الله، نسبة تشريف وتكريم. نسبة تجعل الإنسان في يأس من أن يعلم كنهها وحقيقتها

إذن فهذه الروح  تظل في حنين إلى خالقها.. في شوق دائم إلى بارئها أياً كان الجسد الذي تقبع فيه هذه الروح وهذا معنى من معاني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، ثم عن الشياطين فاجتالتهم)). أتتهم وهذا معنى قول الله عز وجل {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30

 

ولكن لماذا لا نشعر بشوقها هذا إلى العالم الذي أهبطت منه؟ لماذا، ونحن نتأمل جيداً، لا نشعر بحنينها هذا؟

السبب في ذلك أن هذه الروح محاطة بعالم يضج بمظاهر الأهواء، وبوارق الشهوات التي تستثير الغرائز التي قلنا إنها تشكل العنصر الثاني من العناصر الثلاثة التي يتألف منها الإنسان

فإذا تصدعت مشاعر الروح حنيناً صافياً إلى عالمها العلوي الذي تنتسب إليه، تصيدتها مشاعر الأهواء والشهوات التي تلهبها الغرائز، وصادرتها لحسابها، وترجمت حنينها العلوي لمشاعرها الغريزية

وعلى سبيل المثال نقول: الإنسان نزاع إلى حب الجمال، وهذا في أصله شعور روحاني تتجه به الروح إلى الملأ الأعلى، حيث معين الجمال كله، وحيث الجميل الأوحد، وهو الله عز وجل.. ولكن هذا الشعور العلوي ما يلبث أن يصطدم بمشاعر الغريزية المتجهة إلى بوارق الشهوات والأهواء الأرضية، ثم لا يلبث هذا الشعور العالي أن يترجم لمصلحة المشاعر الغريزية ويتحول إلى تعبير عنها

ويقف الإنسان مغلوباً على أمره أمام هذا الصراع الذي تتغلب فيه مشاعر الغرائز والأهواء الأرضية والحيوانية. فيقف مفتوناً أمام الصور والأشكال والمظاهر، دون أن يتمكن من مواصلة طريقه إلى الملأ الأعلى الذي تتجه الروح إليه

 

وعلى سبيل المثال أيضاً: هذه الروح نزاعة إلى حب واحد، لا ثاني له، حب بارئها.. حب خالقها.. حب مصورها.. ولكن هذا الحب إذا يتعالى من أعمق أعماق القلب، يصطدم بالشهوات والأهواء والغرائز، فتصادر هذه الغرائز حب الروح، لحسابها.. وتتجه بها إلى الصور والأشكال والرغائب النفسية.

وهكذا يعيش أحدنا، وهو يتصور أن حبه موزع بين الصور والأشكال الأرضية، وأن تأثره موزع بين هذه الدنيا وشهواتها وأهوائها. والحقيقة ليست كذلك

فما هو الدواء الذي يحرر الروح من أسر هذه الشهوات والأهواء؟ ما هو الدواء الذي إن استعملناه أدركناه حنين هذه الروح وعرفنا إلى من تهفو وتتشوق، وتفاعلت مشاعرنا مع أرواحنا هذه.

لا دواء لذلك أبداً إلا مراقبة الله عز وجل. لا دواء لذلك إلا العكوف على ذكر الله عز وجل. أي تذكره سبحانه وتعالى. لا دواء لذلك سوى أن أربط بين المخلوقات وخالقها، فأنظر إلى ما أبدع الله عز وجل، ولكن على أن أنظر إليها من خلال صفات الخالق، من خلال صفات المبدع عز وجل.

 

كيف السبيل إلى ذلك؟

السبيل إلى ذلك، فالدوام والاستمرار على ذكر الله عز وجل، كما أمر الله سبحانه وتعالى، وهذا المعنى الذي أقول، إنما صدر عنه العلماء من خلال قرار علمي، قبل أن يصدروا عنه من خلال التصور الديني. ولعل القصيدة المشهورة لأبي علي بن سينا، جاءت تعبيراً عن هذا الكلام، وهي التي يقول في مطلعها عن الروح:

 

 

 

هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ * وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ

 

مَحْجُوبَةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عَارِفٍ * وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ

 

وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا * كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ

 

أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ * أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ

 

تَبْكِي إِذَا ذَكَرَتْ عُهُودًا بِالْحِمَى * بِمَدَامِعٍ تَهْمِي وَلَمَّا تُقْلِــعِ

 

حتى إِذَا قَرُبَ الرُجُوعُ إلى الحِمَى * ودَنَا الرَحِيلُ إِلَى الفَضَاءِ الأَوسَعِ

 

أَخَذَت تُغَردُ فَوقَ ذُروَةِ شَاهِقٍ * والعِلمُ يرفَعُ كُلَ  مَن لمَ يرفع

 

هذه حقيقة ذكرها العلماء من خلال منظور علمي، قبل أن يتبونها من خلال مقولة دينية. وإنما يسجد العلم في هذا لحقائق الدين

 

فإذا أدركنا هذه الحقيقة، فإن بوسعنا أن نعلم أن الإنسان إذا أسلم نفسه لإيمانه العقلاني بالله عز وجل، وانقاد لهذا الإيمان العقلي المجرد، فهيهات أن يصل من خلال ذلك وحده إلى الله عز وجل

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=33&id=4645