الخطابة الدينية » منابر دمشق

مهنة المحاسبة 1

الدكتور الشيخ محمد خير الشعال


مهنة المحاسبة 1

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ   وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*} [التوبة: 105].

وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].

أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ

أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ».

وأخرج البخاري ومسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين».

هذه هي الخطبة الخامسة والعشرون في سلسلة (مهنتي: فقهها وآدابها)

 ونبدأ اليوم الحديث عن مهنة المحاسبة -1-

أيها الإخوة:

أطلق فقهاء المسلمين على المحاسبة قديما كتابة الأموال، وزَخَرَ التراث الإسلامي

بالمعلومات المحاسبية والمالية، فقدم الفقهاء مفهوماً واضحاً للثراء والربح وقياس

الربح وعالجوا موضوعات التكلفة بأنواعها، ورأس المال بأنواعه، والأصول بأنواعها، وتحدثوا عن مفهوم الإهلاك والإحلال والتقويم والتبويب لهذه الأصول، وتكلموا عن

المركز المالي، وتسجيل التكاليف والموازنات التخطيطية الحكومية، في أثناء حديثهم عن عمل بيت المال والمبادئ المحاسبية فيه.

وحوت المكتبة الإسلامية مئات بل ألوف المراجع المحاسبية الإسلامية  القديمة

والحديثة حريٌ بالمحاسب المنضبط بأحكام شريعته الاطلاع على بعضها  ليفيد منها

في علمه وعمله.

و يقال أن لوكا باتشيليو الإيطالي هو الذي وضع أسس علم المحاسبة الحديثة في

عام 1494م/913ه حين ألف كتاباً  تحدث فيه عن المحاسبة والقيد المزدوج والدفاتر

المحاسبية وأقترح ثلاثة دفاتر هي التسويدة واليومية والأستاذ، ولكن الدارس لكتابات

علماء المسلمين الذين سبقوا باتشيلو يجد بما لا يدع مجالاً للشك أن المسلمين سبقوه

  في الحديث عن قواعد المحاسبة والدفاتر التي تحدث عنها، وأن النظام المحاسبي

في الدولة الإسلامية وفي بيت المال خاصة قد طبق هذه القواعد قبل أن يعرفها العالم بمئات السنين. 

 يسعني في خطبة اليوم أن أجيب عن سؤالين اثنين:

- ما حكم دراسة المحاسبة والعمل محاسباً في الشركات والمؤسسات المختلفة؟

- تخفيفاً للنفقات وخلافا للأصول العلمية، يعمل محاسبا وأميناً للصندوق في آنٍ واحد؛ ووجد عنده زيادة في المال فكيف يتصرف فيها؟

وإليكم الإجابات والله المعين.

السؤال الاول: ما حكم دراسة المحاسبة والعمل محاسباً في الشركات والمؤسسات المختلفة؟

الجواب: المحاسبة علم دقيق نافع، أسس لأصوله علماء المسلمين واشتركوا مع

غيرهم في تطويره، والدراسة في علوم الاقتصاد والمحاسبة والإدارة فرض كفاية

 مأجور من يتعلمها لإعمار البلاد وخدمة العباد، وتزيد اهميةَ هذا العمل وضرورتَه حاجةُ جميع الشركات والمؤسسات والمشاريع بل والمتاجر الصغيرة للمحاسبين والمحاسبين القانونيين والمدققين وربما للمدراء الماليين.

وجواز دراسة هذا العلم لا تعني جوازَ أن يعمل المسلم محاسبا أو مدققا أو مديراً

 مالياً في المؤسسات الربوية أو في معامل الخمر والبيرة والخنزير، أو في شركات

تنشر الرذيلة والفحش في المجتمع؛ لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، المنهي عنه شرعاً.

روى الإمام عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ: هُمْ سَوَاءٌ»  ولا ننسى أن المحاسب كاتب.

قال النووي في شرح مسلم: "هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابيين، والشهادة عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل".

وقال الصنعاني  في سبل السلام: "دعَا على المذكورِين بالإبعاد عن الرحمة، وهو دليل

    على إثم مَن ذُكر، وتحريم ما تعاطوه... وإثم الكاتب والشاهديْن: لإعانتهم على المحظور، وذلك إذا قصَدَا وعرَفَا بالربا ".

فتجوز دراسة المحاسبة – ضمن الضوابط الشرعية -، بل تطلب على سبيل فرض الكفاية، ويجوز العمل بعدها في أماكن تعمل في المباحات كالشركات والمؤسسات ذات الأعمال الحلال، وهي كثيرة والحمد لله.

على أن بعض الشركات والمعامل تنتج سلعاً تستخدم في الحلال والحرام،

كالملبوسات النسائية التي تصلح أن ترتديها المرأة في المنزل أوفي الطريق،

وكأجهزة الحاسب التي تستخدم في نشر الخير أو الشر، ومثل ذلك كثير.

والقاعدة في الأشياء التي تستعمل في الحلال والحرام هو جواز بيعها وتصنيعها،

إلا لمن عُلم أو غلب على الظن أنه يستعملها في الحرام.

وبناء على ذلك؛ فلا حرج على المحاسب من العمل في مثل هذه الشركات، إلا إذا

تبين له أن أغلب المتعاملين مع الشركة يستخدمون منتجاتها في الحرام، ففي هذه الحال لا يجوز له العمل معهم.

والأصل الجواز عند الشك بحال الزبائن أو الجهل.

وليعلم المسلم أن من ترك شيئاَ لله عوضه الله خيرا منه في دينه ودنياه،  قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا اتِّقَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ» [أحمد].

بقي في هذا الباب مسألة عُرِضت على الشيخ مصطفى الزرقا - وهو الأستاذ في

كليات الشريعة والقانون في الجامعات السورية والأردنية والخليجية، والخبير في الموسوعة الفقهية الكويتية، وأسندت إليه وزارتا العدل والأوقاف في سورية عام 1956توفي سنة 1999رحمه الله تعالى، أعرضها عليكم، سأله سائل فقال:

أعمل محاسباً في مؤسسة مالية، ويعد من صميم عملي كتابة وتدوينُ الفوائدَ الربوية، والمشكلة أننا معشر المحاسبين بين حرجين ديني ودنيوي، إما أن نترك الأمر برمته

ونغير الاختصاص بعد طول دراسة وممارسة وهذا عسير، وإما أن نخوض في

احتساب هذه الفوائد الربوية وتسجيلها، فهل من مخرج شرعي لحالتي هذه؟

فأجابه الشيخ في فتاويه المطبوعة ص 485: 

الأصل أن العمل المحاسبي تدقيقاً وجمعاً وتدويناً في مثل هذه الحالة وهي العمل لدى

المؤسسات المالية الربوية عامةً كانت أو خاصة غير جائز، لأنه يقع ضمن الحديث النبوي الشريف الذي يلعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، والمحاسب كاتب.

ولكن إذا علمنا أن أغلب الشركات التجارية في العالم العربي والإسلامي تتعامل مع

مؤسسات ربوية صار من العسير القول بعدم جواز عمل المحاسب القانوني

(المختص في المحاسبة) في تدقيق حساباتها وإقرارها؛ لأن ذلك يعني عملياً تركَ المحاسبين لمهنتهم والانصرافَ عنها إلى غيرها بعد طول خبرة ومراس.

وهذه الحالة التي سيقع بها المحاسبون تسمى في الفقه الإسلامي (عموم البلوى) و

هي حالة خاصة بحثها الفقهاء وقرروا لها بعض الأحكام الاستثنائية منها:

قرر فقهاء الحنفية أنه إذا عم الفساد وفقدت العدالة يقبل القضاء شهادة الأمثل فالأمثل.

وقرروا أيضاً العفو عن سؤر الهرة مع أنها من السباع كما وصفها رسول الله حيث

قال: «الهرة سبع» وهذا التوصيف يستلزم نجاسة سؤرها تبعاً للحمها، ولكن النبي

 صلى الله عليه وسلم عفا عن سؤرها رفعاً للحرج عن الناس؛ لأنها تدخل إلى بيوتهم من مداخل مختلفة يعسر منعها منها.

وقالوا: إن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة لما دخل الري، ورأى الآبار في ريفها مكشوفة فيسقط روث الأنعام فيها أفتى رحمه الله تعالى بالعفو عن روث الأنعام هناك، دفعاً للحرج عن الناس.

ومن شواهد عموم البلوى المتصلة بالمسألة ما ورد في الحديث «ليأتين على الناس

زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من بخاره» وفي رواية: «من غباره»، ومعنى هذا الحديث محقق اليوم كما يلاحظ.

وبناءً على ما سبق فإن المحاسبة تخصص جامعي معروف يدرّس اليوم في كل

جامعات العالم وهي باب رزق للكثيرين، وقد عمت البلوى في الربا، والقول بتحريم عملهم يزج بهم في حرج عظيم.

والأولى أن يُعفى عن الكتابة والمحاسبة القانونية في الشركات لعموم البلوى؛ وذلك جمعاً بين مقاصد الشريعة والواقع الذي لا يملك آحاد الناس تغييره.

وفي ضوء ما تقدم يمكن التمييز بين حالتين:

الأول: العمل المحاسبي ضمن شركات يكون أصل عملها مشروع، ولكن يدخلها الربا عرَضاً وتبعاً؛ وهذه هي المقصودة بالجواب.

الثانية: الشركات التي يقوم أصل عملها على المحرم كالمصارف الربوية، فإن صلب

نشاطها المصرفي قائم على الإقراض بفائدة، وهذه لا يجوز ممارسة الكتاب والمحاسبة فيها إلا في حدود الضرورة الشرعية، والله تعالى أعلم.

السؤال الثاني: تخفيفاً للنفقات وخلافا للأصول العلمية، يعمل محاسبا وأميناً للصندوق في آنٍ واحد؛ ووجد عنده زيادة في المال فكيف يتصرف فيها؟

أعمل محاسباً وأميناً للصندوق وأجد في بعض الأحيان زيادة في المال لا أعرف مصدرها، لو أخذتها أثمت ولو أخبرت الإدارة بها اتهمتني بالإهمال أو سوء الائتمان وستكون مشكلة. فماذا أفعل؟

الجواب:

الأصل المعمول به أن تدون هذه الزيادات في حقلٍ يسمى (فرق الصندوق) أو نحو ذلك، تسجل فيه الزيادات أو النقص، ويجبر بعضها بعضا.

والظاهر أن هذه الزيادة لا تنشأ إلا عن خطأ في الحساب، أو في القبض والصرف و

أنها مستحقة للغير، إما لجهة العمل أو غيرها، ولهذا يجب أن تتحرى الدقة في عملك، وأن تفتش في حساباتك الماضية لتعرف المستحق لهذا المال، فإن لم يتبين لك الأمر فاحتفظ به مدة، رجاء أن يتضح لك.

 ثم إن كان تدوينها في (فرق الصندوق) وإخبار الإدارة يترتب عليه مفسدة واضحة،

مع جزمك بأن المال ليس للإدارة، فلا يلزمك إخبارها، وإنما تتصدق بالمال على نية صاحبه، فإن علمته يوما من الدهر، خَيَّرته بين إمضاء الصدقة، ويكون ثوابها له، أو

دفع ماله إليه، ويكون الثواب لك.

وإن كان المال للشركة، لزمك رده إليها، وإدخاله في حسابها بأي وسيلة ممكنة، ولا يشترط إخبار الإدارة بذلك.

قال في "مطالب أولي النهى" (4/65): (قال الشيخ تقي الدين: إذا كان بيد الإنسان

غصوب أو عواري أو ودائع أو رهون قد يئس من معرفة أصحابها ; فالصواب أنه

يتصدق بها عنهم ..., وكان عبد الله بن مسعود قد اشترى جارية, فدخل بيته ليأتي

بالثمن فخرج فلم يجد البائع فجعل يطوف على المساكين ويتصدق عليهم بالثمن, ويقول: اللهم عن رب الجارية. وكذلك أفتى بعض التابعين, من غَلَّ (أي: سرق) من

 الغنيمة, وتاب بعد تفرقهم أن يتصدق بذلك عنهم, ورضي بهذه الفتيا الصحابة والتابعون الذين بلغتهم كمعاوية وغيره من أهل الشام).

أيها الإخوة:

هذه إجابات على بعض أسئلتكم المتعلقة بمهنة المحاسبة وللموضوع تتمة إن شاء الله، واذكروا أن المطلب الرئيس من كل من يستمع لهذه الخطب أن يُحَكِّم شرعَ الله في مهنته، لئن فعلتَ فأنت تتعبد الله تعالى في مكان عملك تماماً كما تتعبد الله تعالى في مسجدك،

وإن لم تفعل فحاول أن تفعل، وابدأ الآن.

والحمد لله رب العالمين

 

Copyrights © awqaf-damas.com

المصدر:   http://awqaf-damas.com/?page=show_det&category_id=94&id=4598