الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2018-02-05 الساعة 09:31:08
لا ذكورية في الفقه الإسلامي
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ

تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ

الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 20 - 22]

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]

عنوان خطبة اليوم: لا ذكورية في الفقه الإسلامي

أيها الإخوة:

ذكورية الفقه ورجوليته مقولة شيطانية أخذت تطرق الأسماع وتشق طريقها إلى

بعض القلوب.

يقول أصحاب هذه المقولة إن فقهاء الإسلام بنظرتهم الذكورية كتبوا لنا فقهاً

ذكورياً ربّى مجتمعاً ذكورياً، يظلم فيه الزوج زوجته ويعتدي فيه الأخ على حق

أخته ويعق الابن فيه أمه وتعيش المرأة فيه حبيسة الدار معزولة عن التحرر والتطور، بينما ينعم بالخيرات الذكور.

يروّج للمقولة من يروّج في بعض الملتقيات والندوات ووسائل الإعلام والاتصال، وتسربت إلى خطاب بعض المثقفين غير الواعين بخطورتها وما تهدف إليه من

تشويه الفقه والنيل من قدسيته وصدّ المرأة المسلمة عنه بل والمجتمع عامة،

لتنسلخ الأجيال عن عقيدتها ومرجعيتها ودستورها الإسلامي وتتحول إلى فريسة

سهلة الاقتناص من قبل أعداء الأمة.

فيُتَّهَم الفقه الإسلامي بالتحيز للرجل ضد المرأة وبعدم إنصافها منه وبوقوفه وراء

ما تعانيه من ظلم وجور وتهميش على يد الرجل أباً وزوجاً وأخاً وأجنبياً.

وللرد على هذه المقولة الجاهلة الداعية للسخرية أعددت هذه الخطبة، وقد أرسل لي

أخٌ كريم رسالة  فيها نسخة الكترونية من كتاب مؤلف من تسعين ورقة وجدته قيماً

في هذه المغالطة عنوانه (لا ذكورية في الفقه) للأستاذ الدكتور محمد التاويل، أستاذ التعليم العالي والفقه والأصول بجامع القرويين، عضو اللجنة الملكية الاستشارية

لمراجعة مدونة الأسرة بالمغرب، توفي 2015م.

حوى الكتاب مبحثين اثنين: أولهما في الرد على دعوى ذكورية الفقه وإبطالها نظرياً وواقعياً، وثانيهما في بيان حكم الفقه وأسراره في القضايا التي فرق فيها بين الرجل والمرأة، كتعدد الزوجات ودية المرأة والشهادة والولاية والطلاق والميراث والقوامة.

وسأتخير من هذا الكتاب شيئاً يسمح به الوقت، وسأتصرف به فيما يناسب المقام لدحض هذه القالة وأحيلكم عليه لتفيدوا منه.

يقول المؤلف:

(إن اتهام الفقه بالذكورية جهالة بمفهوم الفقه الإسلامي وطبيعته وعلاقة الفقيه به ومدى تأثره أو تأثيره فيه، لأن من لا صلة له بالفقه يظن أن الفقه عمل بشري يتأثر بأحاسيس الفقيه ومشاعره وينبعث من عواطفه وميوله ويعبر عن آرائه وطموحاته.!

 وليس يعلم أن الفقيه إنسان ملك أدوات الاستنباط وأتقن صنعة التعامل مع النصوص منضبطاً بقواعد أصول الفقه فيستخرج الأحكام الفقهية وفق القواعد من أدلتها الشرعية. 

وقد عرف العلماء الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.

فالفقه هو مجرد العلم والمعرفة بتلك الأحكام فقط، لا شرعَها ولا سنَّها، والفقيه

 لا يحكم ولا يُشَرِّع حكما؛ لأن الحكم لله وحده، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]. ولكن الفقيه يبحث ضمن الأدلة عن الحكم الغائب المجهول، كما يبحث

المنقبون عن المعادن النفيسة، فإذا اكتشفه وعثر عليه التزمه في عمله وإفتائه

وقضائه ، ونُسِبَ إليه لأنه اكتشفه، لا لأنه شرعه، فالمُشرِّع إنما هو الله، كما تنسب النجوم والكواكب لمكتشفها لأنه اكتشفها لا لأنه خلقها، فالخالق هو الله عز وجل.

فينحصر دور الفقيه والفقيهة في البحث عن الحكم واكتشافه بوسائل محددة يستوي

في التزامها والتقيد بها الرجل والمرأة. وليست تميل إلى أو تحيف على أحدهما.

فلا ذكورية في الفقه الإسلامي ولا أنثوية فيه، بل يدور الحكم مع الدليل وجوداً و

عدماً.

وسأدفع فرية ذكورية الفقه الإسلامي من خلال ثلاث نقاط:

  أولها: اجتهادات فقهاء تميل لصالح المرأة، واجتهادات فقيهات تميل لصالح الرجل.

ولو كان الفقه ذكورياً لما مال الرجل الفقيه لصالح المرأة ولما مالت المرأة الفقيهة

نحو الرجل.

وثانيها: مناقشات ومراجعات بين الفقهاء والفقيهات في مسائل تدعم الرجل أو

المرأة، كان كل منهما يظن أنها لجانبه فلما ظهر له الدليل وقف عنده.

ولو كان الفقه ذكورياً لما  وقف الفقيه والفقيهة عند الدليل بل لوقف كل منهما عند مصلحة أبناء جنسه.

وثالثها: اتفاقات فقهاء وفقيهات على مسائل لصالح المرأة حيناً ولصالح الرجل حيناً آخر، التزاما بالدليل.

ولو كان الفقه ذكوريا لما اتفق الجميع على مسألة يظهر أنها تميل لصالح واحد منهما.

وإليكم البيان:

أولاً: اجتهادات فقهاء تميل لصالح المرأة، واجتهادات فقيهات تميل لصالح الرجل.

من ذلك هذه المسائل:

1-  حق المرأة في الخروج للمسجد:

كانت السيدة عائشة رضي الله عنها ترى منع النساء من ذلك وتقول: "لو أن رسول

الله صلى الله عليه وسلم رأى من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها" [مسلم]. 

بينما كان ابن عمر رضي الله عنه كان يرى أن للمرأة الحق في الخروج للمسجد

لحديث «لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن» [أبو داود].

في حديث آخر «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» [البخاري].

فهاهنا فقيه يميل باجتهاده لمصلحة المرأة وفقيهة تميل باجتهادها لمصلحة الرجل

– فيما يبدو للناس-، والحق أن أياً منهما لم يكن يبحث عن مصلحة بني جنسه بل

كان يبحث عن الدليل. فهل كان الفقه هنا ذكورياً؟!.

2-  حق المرأة في ولاية النكاح:

فقد قالت عائشة رضي الله عنها: "لا حق للمرأة في عقد النكاح على نفسها ولا على غيرها من النساء، لما روته من حديث «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها

فنكاحها باطل قالها ثلاثاً» [أبوداود].

وقد أخرج البيهقي عن عبد الرحمن بن القاسم قال: "كنت عند عائشة تُخْطَب إليها المرأة من أهلها فتشهد فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض أهلها: زوّج فإن المرأة

لا تلي عقد النكاح، وفي لفظ فإن النساء لا يُنْكِحْن" [تعليق المغني على الدارقطني].

في حين يرى أبو حنيفة أنه يجوز للرشيدة أن تزوج نفسها، كما يجوز لها أن تبيع مالها.

فهل كان الفقه هنا ذكورياً؟! على أن جمهور العلماء أخذوا بقول السيدة عائشة لأدلة قوية تجدونها في مظانها.

3-  حق المتوفى عنها زوجها في السكنى:

 كانت عائشة رضي الله عنها لا ترى لها سكنى، وكان ابن عمر يرى لها السكنى أثناء العدة، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240].

4- الخلع بجميع ما تملكه الزوجة:

 كانت الربيع بن معوذ رضي الله عنها ترى جوازه وصحته، وخالعت زوجها على ذلك فأقرها عثمان على ذلك، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يرى أنه لا يجوز إلا

بما أعطاها من الصداق.[المحلى].

وقد أخذ الجمهور برأي الربيع وقضاء عثمان لعموم قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا

فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229].

هذه إذن نماذج وقفت فيها المرأة الفقيهة – فيما يبدو للناس- ضد "مصلحة" المرأة

أو ضد حق من حقوقها ووقف فيها الرجل الفقيه مع "مصلحة" المرأة وضد مصلحة الرجل، والحق أن أحداً منهما الفقيه والفقيهة لم يقف مع أو ضد مصلحة أحد ولكن

وقف مع الدليل الراجح لديه ومع التزامه بقواعد أصول الفقه في قراءة الدليل

متجرداً عن الذكورة والأنوثة وهواجسهما.

ثانيا: مناقشات ومراجعات بين الفقهاء والفقيهات في مسائل تدعم الرجل أو المرأة،

كان كل منهما يظن أنها لجانبه فلما ظهر له الدليل وقف عنده.

من ذلك هاتان الحادثتان:

1-  عزم عمر رضي الله عنه على تحديد مهور النساء في اثنتي عشرة أوقية، وقد كانت حجته في ذلك الحرص على اتباع السنة النبوية التي أشار إليها بقوله: "لو كان غلاء الصداق مكرمة في الدينا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله

عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية". ففهم من هذه السنة الفعلية المتكررة تحديد الحد الأقصى للصداق.

 فرأت امرأة في ذلك مخالفة للأدلة الشرعية ومساً بحق المرأة في الصداق، فردت

عليه بقولها: يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ

 قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فلما سمع الآية رجع إلى قول المرأة و

قال كلمته المشهورة: أصابت امرأة وأخطأ عمر.

ولم يكن الفقه ذكورياً.

2- روى البخاري بإسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «لعن الله الواشمات الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله».

فبلغ ذلك امرأة تحفظ القرآن يقال لها أم يعقوب، لم تذكر في ذلك دليلاً ورأت في ذلك

مساً بحق النساء في التجمل فأنكرت عليه ذلك، فقال لها: وما لي ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو في كتاب الله، فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ  فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. قالت: بلى، قال: فإن رسول الله صلى الله

عليه وسلم نهى عنه، قالت: إني لأظن أهلك يفعلونه، قال: اذهبي فانظري فذهبت فلم تر من حاجتها شيئاً، فجاءت فقالت: ما رأيت شيئاً، فقال: لو كانت كذلك لما جامعتها.

 فرجعت المرأة إلى قوله ولم يكن الفقه ذكورياً أو أنثوياً.

ثالثا: اتفاقات فقهاء وفقيهات على مسائل لصالح المرأة حيناً ولصالح الرجل حيناً آخر، التزاما بالدليل.

1-  مسائل اتفق عليها الفقهاء تبدو لصالح المرأة: منها  توريث الجدة أم الأم دون

الجد أبي الأم، وإيجاب نفقة الزوجة على زوجها دون إيجاب نفقة الزوج على

زوجته الغنية، وإلزام الرجل بتقديم المهر عند العقد لزوجته دون إلزامها بتقديم هدية مالية له عند العقد مع أن كليهما منتفعان بعقد الزواج.

فهذه الأحكام وغيرها لم تأت لصالح المرأة ضد الرجل، بل جاءت لتحقق مصلحة الأمة، وتقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.

2-  مسائل اتفق عليها الفقهاء تبدو لصالح الرجل:  منها توريث العم دون العمة، وتوريث أبناء الابن دون أبناء البنت وإعطاء الزوج حق الطلاق والرجعة دون المرأة.

فهذه الأحكام وغيرها كثير لم تأت لصالح الرجل ضد المرأة، بل جاءت لتحقق مصلحة الأمة، وتقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.

أيها الإخوة:

بعد كل ما سمعتم ، ترى هل بقي لفرية اتهام الفقه بالذكورية وجود في ساحة البحث العلمي المنصف، اللهم إلا أن يكون حاملها جاهلا أو حاقدا.

لم يكن شرع الله تعالى يوما ليحيف أو يجور أو يظلم العباد {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، ولم تكن الشريعة لتفاضل يوماً بين الناس ذكورهم وإناثهم عربهم وعجمهم إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]

وإن الخير كله والكمال كله في التمسك بشرع الله وبكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

روى الإمام مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تركت فيكم أمرين لن

تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله».

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1913
تحميل ملفات
فيديو مصور