الخميس 18 رمضان 1445 - 28 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2017-12-12 الساعة 09:16:05
القُدس وفلسطين
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].

وقال ربنا: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 69 - 71]

قال ابن عباس الأرض المباركة أرض الشام، وَقِيلَ: لَهَا مُبَارَكَةٌ لِكَثْرَةِ خِصْبِهَا وَثِمَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَلِأَنَّهَا مَعَادِنُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: الأرض المباركة بَيْتُ الْمَقْدِسِ، لِأَنَّ مِنْهَا بَعَثَ اللَّهُ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ أَيْضًا كَثِيرَةُ الْخِصْبِ وَالنُّمُوِّ، عَذْبَةُ الْمَاءِ.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى» [البخاري ومسلم].

وعن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: يَا رَسُولَ الله، أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَقَالَ: «ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ -وَكَانَتِ الْبِلاَدُ إِذْ ذَاكَ حَرْبًا-، فَإِنْ لَمْ تَأْتُوهُ وَتُصَلُّوا فِيهِ فَابْعَثُوا بِزَيْتٍ يُسْرَجُ فِي قَنَادِيلِهِ» [أبو داود].

وروى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ الله وَهُمْ كَذَلِكَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله وَأَيْنَ هُمْ؟ قال: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ».

وفي رواية أبي يعلى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهُ، وَعَلَى أَبْوَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ، لا يَضُرُّهُمْ خُذْلانُ مَنْ خَذَلَهُمْ، ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ».

عنوان خطبة اليوم : القدس وفلسطين

أيها الإخوة: القدس هذه البلدة المباركة ارتبطت بعقيدة المسلم، وبتاريخ المسلم، وبحاضر المسلمين وبمستقبلهم.

بارك الله فيها وفي مسجدها وفيما حولها بنص آيات القرآن، وحضّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على الصلاة في مسجدها، وعلى الدفاع عنها بالأحاديث الصِّحاح، كان مسجدها قبلتنا الأولى، ومنه عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وفيه كان يجتمع المحدّثون والفقهاء وربّما نذر مسلمٌ إن شفى الله ولده أن يخرج بعمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وربما نذرت امرأةٌ من المسلمين إن قضى الله حاجتها أن تسرج زيتاً في ذلك المسجد.

القدس، كَبِد العالم الإسلامي، فإذا كان الكبد عليلاً فالعالم الإسلامي كله عليل، وفي شفائه شفاءٌ للجسم كله.

القدس نبض الأمة، فإذا سلِم سلمتْ، وإذا أصيبَ أصيبتْ.

القدس والمسجد الأقصى، أخت مكة والمسجد الحرام، والمدينة والمسجد النبوي الشريف، وتهديد الأولى تهديدٌ للثانية، وإيذاء الأولى إيذاءٌ للثانية.

خطب بن غوريون يوماً في الجيش اليهودي عندما دنسوا القدس المطهر فقال: لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب.

إنْ أصيب القدس أصيبت المدينة، وأصيب المسجد الحرام.

في سنة 15 للهجرة، هَبَّ المسلمون لفتح القدس وتخليصها من أيدي الرومان, بعد أن عاثوا فيها فسادا وحولوا الصخرةَ التي منها انطلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى معراجه مزبلةً، كان قائدُ الجيش أبا عبيدة بن الجراح، وبعد قتال أربعة أيام وحصار أربعة أشهر وافق أهلُها على الصلح بشرط أن يسلِّموا المدينةَ للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل أبو عبيدة إلى الخليفة عمر رضي الله عنه في المدينة المنورة, فخرج عمر إليها، وكان من شأنه أنه بينما كان ذاهباً للقاء قساوستها ورهبانها ليستلم المدينة, مرَّ بمخاضةٍ من طين, فنزل عن دابَّته ليريحها, ورفع ثوبه وخاض في الطين، فقال له قائد الجيش أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين, كيف تفعل هذا على مرأى من هؤلاء؟ قال: فوكز عمر أبا عبيدة في صدره وقال له: نحن قومٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلام, ومهما نُرِدِ العزةَ في غيره يذلُّنا الله.

وأعزَّ اللهُ عمرَ والمسلمين, وفتح على أيديهم بيت المقدس، وكتب عمرُ للنصارى عهداً يعرُف بالتاريخ بالعُهدة العُمَرية، لم يسطِّر لنا التاريخ عهدةً مثلَها.

ودخل عمرُ المسجدَ من الباب الذي دخل منه رسولُ الله ليلة الإسراء، ويقال: إنه لبَّى حين دخل بيتَ المقدس، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود، وصلَّى بالمسلمين فيه صلاة الغداة, قرأ بالركعة الأولى بسورة (ص) وسجد فيها, وفي السورة الثانية بسورة (بني إسرائيل).

حُرِّر كتاب فتح القدس بتوقيع سيدنا عمر بن الخطاب، وشهد عليه سيدنا خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم.

فما وقَّع عليه الكبار لا ولن يغيره الصغار، وأين القزم من العمالقة.!

أيها الإخوة:

كتب الأستاذ الدكتور راغب السرجاني كتابا قيّماً عنونه (فلسطين واجبات الأمة) ذكر فيه واجبات العلماء والدعاة وواجبات الحكام وواجبات الإعلامييين وواجبات الاقتصاديين وواجبات الشباب والأطباء والنساء والأطفال والمهنيين والمعلمين والأدباء والشعراء وأعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات والمعاهد والرياضيين والجاليات المسلمة وغير المسلمين وعموم الأمة.

وذكر في ذلك كله خمسة وثلاثين ومائة وألف واجب.

أذكر لكم منها ثلاثة:

الأول: دراسة الحكم الشرعي عند احتلال البلاد الإسلامية:

وهذه قضية محسومة عند الفقهاء, وليس فيها خلاف بينهم؛ وهي أن تحرير هذه البلاد المغتصبة فرض على المسلمين, ويُبْذَل في ذلك كل وسيلة شرعية ممكنة, وعلى رأس هذه الوسائل يأتي الجهاد في سبيل الله, ولا يُنْظَر في ذلك إلى فَقْدِ الأرواح والأموال؛ فإن فقد البلاد المحتلَّة تفريط في الدين, وفي سبيل حفظ الدين يُضَحَّى بكل غالٍ ونفيس, ودراسة هذا الحكم تُطَمْئِن قلوب المسلمين إلى أن الأرواح التي نراها تُفقد على أرض فلسطين في سبيل التحرير لم تذهب هباءً منثورًا, كما أنه لا يمكن تحرير البلاد بغير بذلها, وهذا أمر يظهر لنا من خلال دراسة القرآن والسُّنَّة, كما يظهر كذلك من خلال دراسة التاريخ, وفقه الواقع الذي نعيشه.

ولعلنا إذا راجعنا النصوص التي جاءت في كتب الفقهاء نفهم بشكل أكبر مَدَى وُضوحِ الرؤية عند عامَّة الفقهاء في هذه القضية, وبالتالي يَتَرَسَّخ الأمرُ في وجداننا بشكل أكبر, وأهم هذه الآراء:

قال صاحب (مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر) مقرِّرًا أحكام الجهاد في مذهب الأحناف: "الْجِهَادُ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

وإن تركه الكلُّ أثموا.. فإن غلب العدو على بلد من بلاد الإسلام, أو ناحية من نواحيها ففَرْضُ عَيْنٍ, فتخرج المرأة والعبد بلا إذن الزوج والمولى, وكذا يخرج الولد من غير إذن والديه, والغريم بغير إذن دائنه.

 وقال صاحب (بلغة السالك لأقرب المسالك في مذهب الإمام مالك): "الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله تعالى كُلَّ سَنَة فرضُ كفاية, إذا قام به البعض سقط عن الباقي, ويتعيَّن -أي يصير فرض عين كالصلاة والصوم- بتعيين الإمام, وبهجوم العدو على محلَّة قوم, فيتعيَّن عليهم وعلى مَنْ بقربهم إن عجزوا, ويتعيَّن على المرأة والرقيق مع هذه الحالة, ولو منعهم الوليُّ والزوج والسيد ورب الدَّيْنِ إن كان مَدِيناً, ويتعيَّن -أيضاً- بالنَّذْر وللوالدين المنع في فرض الكفاية فقط.

وفي (المغني) لابن قدامة الحنبلي قال: "والجهاد فرض على الكفاية, إذا قام به قوم سقط عن الباقين, ويتعين في ثلاثة مواضع:

أ- إذا التقى الزحفان وتقابل الصفَّان حَرُم على مَنْ حضر الانصرافُ, ويتعيَّن عليه المقام.

ب- إذا نزل الكُفَّار ببلدة تعيَّن على أهله قتالهم ودفعهم.

ج- إذا استنفر الإمامُ قوماً لزمهم النفير معه.

الثاني: فهم الخصوصية الإسلامية لفلسطين:

إذا كان الشرع يفرض على المسلمين تحرير أية أرض إسلامية يحتلها العدو؛ فإن لأرض فلسطين خصوصية إسلامية تُضاعف الهمم لتحريرها, وتُلهِب الأشواق للاستشهاد على ترابها؛ فأرض فلسطين ليست كبقية أراضي المسلمين: فهي الأرض التي بارك الله فيها للعالمين, فيها المسجد الأقصى أُولى القبلتين, وثالثُ الحرمين, ومسرى رسول الله, وفي أكنافها يُرَابط المجاهدون الصادقون إلى يوم القيامة؛ فعن أبي أُمَامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ, لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ, لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلاَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ». قالوا: يا رسول الله, وأين هم؟ قال: «بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ, وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ».

وهي أرض المحشر والمنشر؛ فعن ميمونة مولاة النبي قالت: قلتُ: يا رسول الله, أَفْتِنَا في بيت المقدس. قال: «أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ».

وليس ذلك فقط, ولكن هذه الأرض الطيبة بُذِلَتْ في سبيل فتحها ثم تحريرها دماءٌ غالية, ولقد قاتل فوقها صحابة كرام عظام؛ أمثال أبي عبيدة بن الجراح, وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص, وشُرَحْبِيل ابن حَسَنة, ويزيد بن أبي سفيان, ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم, كما زارها الفاروق عمر بن الخطاب, وأتم فتح القدس كما هو معلوم, وعلى أرضها دارت مواقع إسلامية خالدة؛ مثل: أجنادَيْن وبَيْسَان, ثم بعد ذلك مواقع التحرير الكبرى؛ مثل: حطين وعين جالوت.

إنها ليست أرضاً عادية, وليست كبقية البلاد, إنما لها خصوصية تجعل العمل من أجل تحريرها له متعة خاصَّة لا يُدركها إلا الصالحون.

الثالث: دراسة النماذج المعاصرة والقديمة للتجارِب المماثلة:

إن الذي يدرس هذه التجارب الإنسانية السابقة - مُسْلِمَة كانت أو غير مسلمة - سيجد أن غالب الجيوش التي تحتلُّ البلاد لا تخرج منها إلا بالقوة, وأن أسلوب التفاهم والإقناع لا يُجْدِي شيئًا.

فدراسة التجرِبة الجزائرية مثلاً -وخروجها من الاحتلال الفرنسي بعد كفاح مائة وثلاثين سنة, وتقديم أكثر من مليون شهيد- أمر ضروري لمعرفة طريق التحرير وكذلك ينبغي دراسة التجارِب الليبية وكيف أخرجت الإيطاليين، والسورية وكيف اخرجت الفرنسيين, وغيرها من التجارِب الإسلامية الناجحة, ولا يجب أن يَتَوَقَّف الأمرُ عند هذا الحدِّ, بل ينبغي أن ندرس التجارِب الإنسانية في التحرر, حتى لو لم تكن إسلامية؛ مثل تجربة شعب فيتنام في طرد الاحتلال الأمريكي بعد تقديم ما يقرب من أربعة ملايين إنسان فيتنامي, كذلك ينبغي دراسة تجربة تحرُّر كوريا من أمريكا, وتجربة تحرُّر فرنسا من ألمانيا, وكذلك تحرُّر الصين من اليابان, وغير ذلك من التجارب التي تُعَرِّف المسلمين بسُنَنِ التحرُّر, وآليات الخروج من الأزمة.

ودراسة هذه التجارِب لن تفيد المسلمين في معرفة طرق تحرير البلاد فقط, ولكنها في الوقت نفسه ستُقَدِّم الحُجَّة العقلية والمنطقية لغير المسلمين, عندما نتحاور معهم بشأن الجهاد على أرض فلسطين, وسيرى العالم عندئذٍ أن الذين يُتَّهمون بأنهم إرهابيون, هم في واقع الأمر أبطال في أعراف كل الأمم التي سعت قبل ذلك للتحرُّر, ويكفي أن تقول للفرنسيين: ما رأيكم في الرموز التي قادت الحرب ضدَّ الألمان عندما احتُلت فرنسا؟ هل تعتبرونهم إرهابيين, أقدموا على قتل الألمان وإصابتهم, أم تعتبرونهم أبطالاً دافعوا عن حقوق بلادهم, وضَحَّوْا بأرواحهم لتسعد بقية شعوبهم؟!

إن الحوار بهذه الطريقة يفتح آفاقًا جديدة أمام المسلمين وغير المسلمين, ويُعِيدُ فهم القضية بشكل آخر غير الذي اعتاد عليه عامَّة الناس.

أيها الإخوة:

القدس لنا وفلسطين أرضنا والذود عنها وحماية أهلها ومسجدها وزيتونها ومياهها وسمائها وأرضها واجبنا.

وإن عاث المفسدون فيها حيناً فإن للباطل صولة وللحق دولة. وإن نصر الله آتٍ.

اللهم طهر القدس وسائر فلسطين من العدو الغاصب وأعنا على نصرة الحق والدين.

 

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1671
تحميل ملفات
فيديو مصور