الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2017-07-24 الساعة 08:41:53
مهنة الوظيفة العامة -3-
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال
 


قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ

الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*} [التوبة: 105].

وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].

أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ

أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». [البخاري].

وأخرج البخاري ومسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين».

هذه هي الخطبة السابعة عشرة في سلسلة (مهنتي: فقهها وآدابها)، وفيها متابعة للحديث عن مهنة الوظيفة العامة.

واسمحوا لي مرة ثانية أن أُخالف منهج السلسلة لأزيد في خطب الوظيفة العامة

على الثلاث نظراً لسعة الشريحة العاملة في هذه المهنة من أبناء بلدنا، وقد أجابت الخطبتان الماضيتان عن بعض مسائلكم الفقهية المتعلقة بالوظائف العامة وتجيب خطبة اليوم عن أسئلة جديدة.

 

السؤال الأول: يزكي بعضُ من أثق برأيه أحدَ المتقدمين للتعيين في الوظيفة العامة،

فهل يعد قبولي له بناءً على هذه التزكية تعييناً بالواسطة، خصوصاً وأن عدم قبولي بتزكيته قد يترك أثراً سلبياً بيني وبينه؟

الجواب: ينبغي أن يكون المتقدم لوظيفة حكومية معينة مستكملاً للمؤهلات المطلوبة.

    فإذا تساوى جملة من المتقدمين لوظيفة معينة في هذه المؤهلات تلجأ الجهة

المعنية إلى المفاضلة بينهم بمؤهلات أخرى تسمى (عوامل تثقيل).

ومن عوامل التثقيل المعروفة والمعتمدة ما يسمى (شهادة التزكية) التي يعتمد عليها بوصفها نقطة إضافية وداعمة في سجل هذا الموظف المتقدم.

هذا، ويجوز شرعاً أن يزكي المرء نفسه أو يزكيه غيره لغرض تولي وظيفة عامة أو خاصة إذا كان يأنس من نفسه القدرة على النهوض بأعبائها وإتقان عمله فيها؛ لأنها تزكية لتحصيل مصلحة مشروعة.

وهذا الجواز الشرعي مستثنى من الأصل العام الذي يمنع المسلم من التزكية المدح

{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].

دل على ذلك ما جاء في القرآن الكريم على لسان نبي الله يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]

 وما أخرجه أحمد في المسند من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا طلحة

رضي الله عنه كان يرمي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد والنبي

صلى الله عليه وسلم خلفه يتترّس به، وكان رامياً... وكان أبو طلحة يسوق نفسه

بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إني جَلْدٌ يا رسول الله فوجهني في حوائجك ومرني بما شئت).

فقد زكى نبي الله يوسف نفسه للوظيفة وزكى أبو طلحة أيضاً نفسه.

وبناءً على ما سبق بيانه فلا حرج في قبول تزكية من تثق برأيه وأمانته لمتقدم

 للعمل الوظيفي بعد استكمال هذا المتقدم للشروط المنصوصة في اللائحة التنظيمية وعدم وجود من هو أكفأ منه والله تعالى أعلم.

 

السؤال الثاني: أعمل موظفاً في لجنة المشتريات في دائرة حكومية وقد نضطر في

سبيل شراء معدات جديدة لإتلاف مثيلاتها القديمة، علماً أنها لا تزال في نصف عمرها الاستعمالي فهل عليّ إثم إن وقعت مع اللجنة على إتلافها، لا سيما وأني إن لم أوقع سيصار إلى إنفاذ الأمر عبر تشكيل لجنة جديدة بدوني فما الحكم؟

الجواب: الموظف نائب عن الناس كلهم في قراراته الوظيفية، وتصرفاته بما لها من آثار منوطة بالمصلحة، فإن حققت مصلحة نفذت وأُجر على تحري الحق فيها، وإن

جاءت مصادمة مصالح الناس الذين هم أصحاب الحق الأصلي في المال العام عُدّ الموظف متجاوزاً معتدياً في قراراته.

ومن أهم القرارات الوظيفية وأكثرها حساسية تلك التي لها تبعات مالية، لأن المال

العام تعود ملكيته إلى عموم الناس، وهم كلهم خصوم للموظف يوم القيامة إن هو

غل أو سرق أو تصرف في مالهم بما لا يحقق مصالحهم ويعود بالنفع على مجموعهم.

نظر عمر بن عبد العزيز ليلةً في شؤون الرعية في ضوء السراج فجاء غلام له

فحدثه في سبب كان يتعلق ببيته فقال له عمر أطفيء السراج وحدثني فإن هذا الدهن من بيت مال المسلمين فلا يجوز استعماله إلا في أشغال المسلمين.

وبناءً على ما سبق لا يجوز لموظف لجنة المشتريات التصرف في إتلاف مال عام

إذا كان هذا المال قابلاً للإفادة منه بأي وجه من الوجوه، وإن أقدم على هذا الفعل عُد آثماً في حكم الشرع.

وأما قول السائل: إن امتناعه عن التوقيع لن يؤثر في الأمر شيئا؛ لأن الأمر سيتم به

أو بغيره فالجواب: إن هذا لا يبرئ ذمته أمام الله تعالى إن هو وقّع، فهو مسؤول عن نفسه، وعليه أن يحتاط جهد استطاعته ألا يكون سبيل إهدار المال العام وتضييعه على يديه، إذ المسؤولية يوم القيامة فردية، والحكم التكليفي من حلال أو حرام يتعلق بكل مكلف على حدة والله تعالى أعلم.

  

 

السؤال الثالث: أتلقى أوامر من مديري في العمل، بعضها يخدم المصلحة العامة و

بعضها يناقضها ولكنه ينسجم مع مصالح شخصية للمدير أو غيره فما حدود طاعتي

له وهل أُعد آثماً في الشريعة الإسلامية إن عصيته؟

الجواب: طاعة المدير في العمل أمر تقره العقول السليمة وتحث عليه الشريعة

الحكيمة، ولا يستقيم عمل بدونها.

وتعد طاعة المسؤول في الوظيفة العامة واجبةً في نظر الشرع استناداً لمبدأ المصالح المرسلة إذا كان ما يأمر به المسؤول مما يحقق مصلحة أو يدرأ مفسدة تتصل بمعاش

الناس ومعادهم، ولا يشترط فيما يأمر به المدير أو المسؤول أن تشهد له الأدلة بالاعتبار أو بالإلغاء، يكفي أنه يحقق مصلحة أو يدرأ مفسدة دون أن يناقض الشريعة وتعاليمها مناقضة صريحة لا تقبل التأويل.

فالتزام الموظف بمواعيد الدوام واجبة على سبيل المثال، وتعامله مع المراجعين

على نحو معين حسب تعليمات مدير الدائرة أو القسم؛ واجبة، ومثل ذلك يقال في كل

ما يتضمنه النظام الداخلي لأي دائرة أو مؤسسة.

ويشهد لوجوب طاعة المدير في العمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا

الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ

تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله.

فإذا أمر المدير بأمر يناقض الشريعة مناقضة صريحة ويصادم نصوصها بصورة

ظاهرة ومباشرة لا تقبل التأويل صار من تحت يده من موظفين في حل من طاعته.

أخرج البخاري رحمه الله من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:

 «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم

أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا حطبا، فجمعوا، قال: أوقدوا نارا، فأوقدوها فقال: ادخلوها،

 فهمّوا، وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم

من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم

فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف» وفي رواية «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف».

فالحاصل أنه تجب طاعة المدير فيما تنص عليه اللوائح المنظمة للعمل، ولا يخالف الشريعة مخالفة صريحة، ولا يعارض المصلحة العامة، والله أعلم.

السؤال الرابع: ما حكم التساهل في أداء الوظيفة بحجة أن الراتب الشهري غير كاف؟

الجواب: إن قبول الموظف الحكومي للعمل في الوظيفة بعد علمه بمقدار الراتب الذي

 سيتقاضاه يعد التزاماً منه بتنفيذ العمل والنهوض بالواجبات الوظيفية المنصوص

 عليها في اللائحة التنظيمية وهذا من معنى قوله الباري عز وجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ

 إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34]، وبناءً على ما سبق فلا يجوز الهروب من

الدوام أو التهرب من التزامات العمل أو من خدمة المراجعين بزعم أن الراتب قليل،

وذلك لأن القبول بالعمل بهذا الراتب ابتداءً يعني الرضى بعقد الإجارة بين الموظف والدولة على تقديم كل ما تطلبه منه من خدمات في أثناء فترة الدوام كاملاً مقابل هذا الراتب فقط، حتى إن فقهاء الحنفية نصوا على أنه لا يجوز اشتغال الأجير الخاص في ساعات عمله بغير ما هو مكلف به ولو كان صلاة نافلة، جاء في حاشية ابن عابدين: (وليس للأجير الخاص أن يعمل لغير من استأجره؛ بل ولا أن يصلي النافلة. قال في التتارخانية: وفي فتاوى الفضلي وإذا استأجر رجلا يوما يعمل كذا فعليه أن يعمل ذلك العمل إلى تمام المدة ولا يشتغل بشيء آخر سوى المكتوبة وفي فتاوى سمرقند: وقد

قال بعض مشايخنا له أن يؤدي السنة أيضا. واتفقوا أنه لا يؤدي نفلا وعليه الفتوى).

فإذا لم تأذن الشريعة للموظف بإشغال وقته في أثناء دوامه الوظيفي بصلاة النافلة

ما دام الناس محتاجين إليه، فمن نافلة القول إنه لا يجوز له أن يهرب من دوامه أو يتهرب من التزامات عمله أو من خدمة المراجعين.

أما إن لم يكن لديه عمل أو لا يحتاجه المراجعون، فله أن يفيد من وقته في أثناء

وجوده في دوامه الوظيفي بأي مصلحة عامة أو خاصة، والله تعالى أعلم. 

أيها الإخوة:

هذه إجابات على بعض أسئلتكم الفقهية المتعلقة بمهنة الوظيفة العامة، وللموضوع

تتمة إن شاء الله، واذكروا أن المطلب الرئيس من كل من يستمع لهذه الخطب أن

 يُحَكِّم شرعَ الله في مهنته، لئن فعلتَ فأنت تتعبد الله تعالى في مكان عملك تماماً كما تتعبد الله تعالى في مسجدك، وإن لم تفعل فحاول أن تفعل، وابدأ الآن.

والحمد لله رب العالمين

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1525
تحميل ملفات
فيديو مصور