الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2017-05-07 الساعة 11:46:38
مهنة التجارة -2-
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

 

 

قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ   وَسَتُرَدُّونَ إِلَى

عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*} [التوبة: 105].

وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].

أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ

أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» [البخاري].

وأخرج البخاري ومسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين».

هذه هي الخطبة الثانية عشرة في سلسلة (مهنتي: فقهها وآدابها).

ونتابع اليوم الحديث عن: مهنة التجارة – 2 -

أيها الإخوة:

يفيض القرآن الكريم بالآيات التي تحدثنا عن التجارة والبيع والقرض والإجارة و

الوكالة والربا ونحو ذلك من الأنشطة التجارية، ونزلت أطول آية في القرآن الكريم

تتحدث عن المعاملات المالية آية المداينة، الآية 282 من سورة البقرة ومطلعها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.

قال الإمام الطبري في تفسيره: (التجارةُ رزقٌ من رزق الله، وحلالٌ من حلال الله،

لمن طلبها بصدقها وبرِّها. وقد كنا نحدَّث: أن التاجرَ الأمين الصدوقَ مع السبعة في

ظلّ العرش يوم القيامة).

وجاءت السنة النبوية المطهرة بما يعسر حصره من أحاديث التجارة، فنحن نقرأ فيها أحاديث عن السماحة في البيع والشراء، والنهي عن غش الناس في مبايعاتهم، ونقرأ أحاديث تعلي من شأن التجار الصادقين وتحط شأن من عداهم، وفي السنة أحاديث في النهي عن الاحتكار والنجش والغبن وبيع المسترسل وتلقي الركبان وبيع الحاضر للباد ونحو ذلك الكثير.

أخرج البخاري بسنده عن حكيم بن حزام رضي الله عنهما أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إن صَدَقَ البيِّعانِ وبيِّنا، بورِكَ لهما في بَيْعِهما، وإن كَتَما وكذَبا، فَعَسَى أنْ يَرْبَحا رِبحًا ما، ويَمحَقا بركَةَ بيْعِهما، اليمينُ الفَاجِرَةُ: مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ»

وأخرج عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «رَحِمَ اللهُ رجلاً سَمْحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقْتَضَى».

 

فليعلم تاجرنا أنه يزداد قرباً إلى الله تعالى في تجارته ما نوى الخير والتزم أحكام الشريعة فيها.

سبقت في الخطبة الماضية الإجابةُ على عدد من الأسئلة الفقهية المتعلقة بمهنة

التجارة، وفي خطبة اليوم أسئلة جديدة:

السؤال الأول: أبيع بالمفرق فهل يجوز اشتراط رد السلعة إلى بائع الجملة بعد مدة

إذا كسدت ولم تَنْفُق؟

الجواب: الملاحظ في هذه الصورة أن بائع المفرق اشترى كمية من السلع من تاجر الجملة واشترط عليه رد مالم يَنْفُق، وهذا يعني أن المعقود عليه لم يكن معلوم المقدار بدقة وقت العقد؛ إذ يحتمل أن تَنْفُق نصف الكمية أو ثلاثة أرباعها أو أقل أو أكثر، والجهالة في العقود مبعث منازعة وخصام، سواء كانت الجهالة في المبيع أو في الثمن

أو في صيغة العقد أو في غير ذلك، والشريعة تريد قطع دابر الخصام والنزاع بين المتعاقدين، لذا قررت فساد بيوع الجهالة وعدم جوازها.

«نَهَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن َبَيْعِ حَبَل الْحَبَلَةِ، وَعن بَيْعِ الْمُلاَمَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْحَصَاةِ، وَعن بَيْعِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلاَقِيحِ، وعن بيع السُّنْبُل حَتَّى يَبْيَضَّ و

عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ؛ فَهَذِهِ وَنَحْوُهَا بُيُوعٌ جَاهِلِيَّةٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا، لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ فِيهَا». [مسند أحمد]

ففعل بائع المفرق في الشراء من تاجر الجملة واشتراط رد مالم يَنْفُق، غير جائز، و

 ثمة بديل عن هذه الصيغة ينسجم مع قواعد الشريعة الإسلامية ويلبي حاجة المتعاقدين، وهو أن تبقى السلعة في ملك تاجر الجملة ولا تنتقل إلى ملك بائع المفرق،

بل يوكله ببيع ما يستطيع بيعه منها مقابل نسبة معينة من الربح يتفقان عليها، وما

لا يتيسر بيعه يعيده بائع المفرق إلى تاجر الجملة، ليصير بائع المفرق هنا وكيلاً بأجر

، مع بيان أنه لو هلكت البضاعة عند الوكيل من دون تعد أو تقصير في الحفظ

فضمانها على تاجر الجملة لا الوكيل؛ لأن الوكيل مؤتمن.

أو يمكن لبائع المفرق أن يشتري السلعة فإذا بقيت عنده بقية، طلب من تاجر الجملة إقالته، ويستحب لتاجر الجملة إجابته لذلك من دون إلزام، والله أعلم.

السؤال الثاني: يحدث أحياناً أن تُطلَب مني سلعةٌ ليست موجودة عندي، فأبرم عقدا

مع الزبون بهدف تلبية طلبه من جهة وتحصيل الربح من جهة أخرى، ثم أقوم بتأمين هذه السلعة من جاري أو من السوق ومن ثم أسلمها للمشتري وأقبض ثمنها، فما الحكم الشرعي في هذه المسألة؟

الجواب: الأصل ألا يبيع التجار إلا ما يملكون، أخرج الترمذي عن رسول الله صلى

الله عليه وسلم قال: «لا بيْعَ إلا فيما تملك»، فملكية السلعة شرط من شروط انعقاد البيع. وقد سأل حكيم بن حزام رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه

الحالة بالذات فقال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، أبتاع له من السوق، ثم أبيعه؟ قال: "لا تبع ما ليس عندك".

وهذه الصورة التي سأل عنها حكيم هي أن يبيع المرء للناس أشياء معينة لا يملكها،

ولعله عندما يذهب إلى السوق لشرائها لا يجدها أو يجدها مباعة لغيره، فلا يقدر حينها على تسليمها للزبون، فيفضي إلى منازعة، وكل عقد أفضى إلى نزاع نهى عنه الشارع، ولذلك يقول ابن قدامة: (لا يجوز بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه ويسلمه).

وثمة بدائل شرعية لهذه الحالة: فيمكن لهذا البائع أن يقول للزبون أمهلني قليلاً، ليمضي البائع إلى جاره فيشتريها من الجار ويتملكها سواء دفع للجار ثمنها عاجلا أو أخره لأجل، ثم يعود لمتجره فيبيعها للمشتري.

كما يمكن أن يستلم البائع الثمن كاملاً من المشتري ويتفقا على مواصفات السلعة لا عينها ثم يشتريها من السوق ليبيعها للمشتري، وهو ما يسمى ببيع السلم وهو عِبَارَةٌ

عَنْ " بَيْعِ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ بِبَدَلٍ يُعْطَى عَاجِلاً " وهو رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ مَا

لَيْسَ عِنْدَ بَائِعِهِ كما صرح في المدونة. لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةٍ لِلنَّاسِ، رُخْصَةً لَهُمْ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ.

ومن الممكن للباعة أيضاً أن يَعِدُوا زبائنهم بتأمين هذه السلع لهم، وعداً لا عقداً،

فإذا اشتراها الباعة عاد المشترون لاحقاً لإبرام عقود البيع معهم، والله أعلم

السؤال الثالث: أقوم باستيراد ألبسة من الصين، وأضع عليها اسم علامة تجارية

عالمية -دون استئذان مالك العلامة- فهل يجوز ذلك، علماً أنه لا يوجد لهذه العلامة وكيل داخل البلد؟

الجواب: جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي عام 1988ما يأتي:

أولاً: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع أو الابتكار، هي حقوق خاصة لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمةٌ مالية

معتبرة لتمول الناس بها. وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً، فلا يجوز الاعتداء عليها.

ثانياً: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية،

ونقلُ أي منها بعوض مالي، إذا انتفى الغرر والتدليس والغش، باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً.

ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونة شرعاً، ولأصحابها حق التصرف فيها، ولا يجوز الاعتداء عليها.

وبناء على هذا القرار لا يحل للتاجر الإفادة من علامة تجارية لغيره من دون

استئذان مالكها، سواء كانت العلامة محلية أو عالمية، وسواء وُجِدَ وكيل لهذه السلع ذات العلامة في البلد أم لم يوجد، وليجتهد التاجر في إتقان عمله وبضاعته كما فعل أصحاب العلامات التجارية ليصير اسمه علامة تجارية يسعى لنيلها الآخرون، والله أعلم.

ومثل هذا الجواب يقال لمن سأل فقال: أعمل في مجال "الشماغات" و "الغتر"

وطلب مني الزبائن تقليد إحدى الماركات العائدة لأحد المعامل التي كانت تعمل قبل الأزمة وطباعة علب مماثلة ووضع منتجي فيها.. مع العلم أن بضاعتي لا تقل جودة

عن البضاعة المذكورة ولن أزيد في سعر بضاعتي عندما أضعها في العلبة المقلَّدة، إنما هي رغبة محضة من الزبون.

فجوابه: أنه يحرم وضع العلامات التجارية للآخرين على بضاعتك إلا بإذنهم، ويحرم طباعة علب كعلبهم شكلاً ولوناً وحجماً لوضع بضاعتك فيها، إن كان شكل هذه العلب محمياً لدى الدوائر الرسمية.  

 

السؤال الرابع: ما حكم قول التجار: البضاعة التي تُباع لا تُرد ولا تُبدل؟

الجواب: الأصل أن عقد البيع لازم تترتب آثاره عليه فتنتقل ملكية البضاعة للمشتري

وتنتقل ملكية الثمن للبائع، وإذا ندم أحد المتبايعين وطلب رد البضاعة أو المال

فيُسَن للطرف الآخر إجابته إلى ذلك، خصوصاً إن لم يكن هذا الأمر يسبب ضرراً له «من أقال نادماً...»

  لكن إذا اطلع المشتري على عيب مؤثر في البضاعة التي اشتراها لم يكن على علم به حين شرائها وأراد ردها فالواجب على البائع ردُّها؛ وهو ما يسمى بخيار العيب.

على أن خيار العيب يسقط بأمور منها رضى المشتري بالعيب أو اشتراط البائع

البراءة من العيوب كقوله (أبيعك على أني بريء من كل عيب به) ونحوُه قولُه

(الحاجة التي تباع لا ترد ولا تبدل)

والنتيجة أنه يجوز قول التجار: البضاعة التي تُباع لا تُرد ولا تُبدل؛ وهذا القول

يدعو المشتري إلى زيادة التثبت من سلامة البضاعة قبل شرائها لأنه يمنعه من

ردها بالعيب بعد الشراء، على أنه ينبغي للبائع أن يعلم أنه يجب عليه شرعاً رد البضاعة إن غرر بالمشتري أو غبنه غبناً فاحشاً عند البيع، وإن قال للناس البضاعة

التي تُباع لا تُرد ولا تُبدل، والله أعلم.

هذا، والواجب الشرعي على كل من اطلع على عيب في سلعة أن يبينه للشاري،

فقد سأل أحد الإخوة يقول: أشارك صديقي ببيع السيارات وشرائها، مني المال ومنه مال وعمل. وقد يعلم صديقي أحيانا بعيب شكلي بالسيارة فلا يخبر الشاري. والعيب شكلي وليس بالمحرك. فهل يعتبر المال الذي أكسِبه حراماً؛ علماً أن صديقي لا يكتشف العيب

في بعض الأحيان إلا بعد شراء السيارة فهل هو آثم.

والجواب: ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يحل

لمسلم باع من أخيه بيعاً، وفيه عيب إلا بيّنه له» [رواه أحمد].

وفي حديث آخر: «لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بيَّن ما فيه، ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بيّنه» [رواه أحمد].

فبيع صديقك صحيح مع الإثم، ولا يخلو المال المكتسب من هذا البيع من بعض حرمة، ولو بيَّن للشاري لسلم من الحرام والإثم، والله أعلم.

 

 

 

أيها الإخوة:

هذه بعض الإجابات على مسائلكم الفقهية المتعلقة بمهنة التجارة وللموضوع تتمة

إن شاء الله، واذكروا أن المطلب الرئيس من كل من يستمع لهذه الخطب أن يُحَكِّم

شرعَ الله في مهنته، لئن فعلتَ فأنت تتعبد الله تعالى في مكان عملك تماماً كما تتعبد الله تعالى في مسجدك، وإن لم تفعل فحاول أن تفعل، وابدأ الآن.

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1964
تحميل ملفات
فيديو مصور