الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024 , آخر تحديث : 2024-03-11 13:07:01 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2017-02-26 الساعة 09:36:37
مبادئ عامة في فقه المهن -2-
الدكتور الشيخ محمد خير الشعال

 

 

قال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ   وَسَتُرَدُّونَ


 إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*} [التوبة: 105].


وقال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].


أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: : «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» [البخاري].

وأخرج البخاري ومسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن يُرِد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين».

أيها الإخوة:

هذه هي الخطبة الثالثة في سلسلة ( مهنتي: فقهها وآدابها)

 ونتابع الحديث فيها عن : مبادئ عامة في فقه المهن -2-

  عرضت الخطبة السابقة لثلاثة مبادئ:

1- الأصل في حكم المهن والحرف أنها فرض كفاية.

2- لا يمنع  أخذ الأجر المادي في مهنتك من أخذ الأجر الأخروي.

3- الأصل في المهن الإباحة ما لم يأت الدليل المحرم.

المبدأ الرابع: في الحلال ما يغني عن الحرام:

وذلك على سبيل المهن إجمالاً، ففي المهن الحلال ما يغني عن المهن الحرام،

أو على سبيل المعاملة في المهنة ذاتها، ففي كل مهنة محللة معاملات حلال ومعاملات حرام وفي المعاملات الحلال ما يغني عن المعاملات الحرام.

قال ابن القيم في روضة المحبين: (ما حرَّم الله على عباده شيئاً إلا عوّضهم

خيراً منه:

حرَّم عليهم الاستقسام بالأزلام، وعوَّضهم عنه دعاء الاستخارة.

حرَّم عليهم الرِّبا، وعوَّضهم عنه التِّجارة الرَّابحة.

حرَّم عليهم القمار، وعوَّضهم عنه أكل المال بالمسابقة النَّافعة.

حرم الحرير على الرِّجال، وعوَّضهم عنه أنواع الملابس الفاخرة من الصُّوف والكتان القطن.

حرم عليهم الزِّنا واللواط، وعوَّضهم عنه بالنِّكاح.

حرم عليهم شرب المسكِر، وعوَّضهم عنه بالأشربة اللَّذيذة النَّافعة.

وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وعوَّضهم عنها بالمطاعم الطَّيبات.

ومن تأمَّل هذا هان عليه ترك الهوى المردي، واعتاض عنه بالنَّافع المجدي، وعرف حكمة الله تعالى ونعمته، وتمام نعمته على عباده فيما أمرهم به ونهاهم عنه).

فإذا سألتَ عن أمر تريد أن تعمل به في السُّوق التِّجاري، وأخبرك العالم الثَّقة

أنه حرام، وأطلعك على الدليل، فسله ما البديل؟ لأنَّ الشَّرع عنده بدائل حلال،

ولم يضيّق الشارع على العباد في جانب إلا وسّع عليهم في جانب آخر من

جنسه، فهو سبحانه لا يريد بعباده عنتاً ولا عسراً ولا إرهاقاً {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ

لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ

يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا

 (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [النساء: 26، 27، 28].

فزراعة الحشيش أو التبغ حرام؛ وفي زراعة آلاف الأنواع من الخضار و

الفاكهة والنباتات غيرها ما يغني عنها.

وصناعة الجنس أو القمار أو الفن الهابط الخليع حرام، وإن زعم الزاعمون

 أنها تدر ربحاً أو تنعش اقتصاداً.. فإنها تقضي على العفة وتهدم العلاقات الأسرية الطاهرة؛ وفي آلاف الصناعات النافعة المفيدة ما يغني عنها.

وتجارة المخدرات والخمور أو الخنازير والأصنام أو تجارة الأعضاء حرام؛

وفي آلاف آلاف التجارات غيرها ما يغني عنها. وفي تحريم الإسلام لبيعها

إهمال لها وإخماد لذكرها وإبعاد الناس عن مباشرتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه» [أحمد وأبو داود].

والاشتغال بالوظائف في المؤسسات الربوية أو في الملاهي الليلية أو في

ما يحمل ضرراً محققاً للعباد حرام، ولو لم يكن الموظف مباشراً للحرام أو

الضرر؛ لأن المعاونة على الحرام حرام والمساعدة على الإثم إثم ، ومن أجل

هذا «لَعَن رسول الله آكل الربا وموكله وشَاهدَيْهِ وكاتِبَه» [الترمذي].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمرَ، وشاربَها، وساقيهَا،

وبائعهَا، ومُبْتَاعها، وعاصِرَها، ومُعتَصِرهَا، وحامِلَها، والمحْمُولَةَ له» [أبو داود]. 

وفي الاشتغال في آلاف آلاف الوظائف الأخرى المفيدة الحلال ما يغني عنها.

فالمبدأ يقول: في الحلال ما يغني عن الحرام:

والأمثلة السابقة على سبيل المهن إجمالاً، أما الأمثلة على سبيل المعاملة في المهنة ذاتها:

فالأكثر من المهن حلال كما تعلمون، ولكن تجد داخل المهنة الواحدة معاملة

حلالاً ومعاملة حراماً، وفي المعاملة الحلال ما يغني عن الحرام.

فالأصل في التسويق وترويج البضائع أنه حلال؛ ولكن التغرير بالزبون في

أثناء التسويق بذكر السلعة بما ليس فيها أو بتزيين الرديء من السلع غش وتغرير وهو حرام، والصدق بديل عنه.

 وما يسمى اليوم التسويق المباشر الهرمي أو الشبكي أو متعدد المستويات

حرام لما فيه من الجهالة والغرر والربا، والسمسرة والوساطة لبيع سلع

حقيقية نافعة وأخذ العمولة المناسبة بديل عنه.

والأصل في مهنة الطباعة أنها حلال؛ ولكن طباعة صور فاضحة وكلمات

فاجرة غير جائز ، والصورة غير المثيرة للغرائز والشهوات والكلمة الطيبة

هي البديل.

والأصل في مهنة الطب الحل؛ ولكن إخضاع المريض لعمل جراحي ليس

محتاجاً إليه حرام. كطبيبة نسائية تولد مريضاتها إجمالاً بعمليات قيصرية،

ولو صبرت على بعضهن لكانت الولادة طبيعية، فالعملية هنا حرام، وفي التوليد الطبيعي غنية من الحلال.

وعمليات التجميل التحسينية حرام، وعمليات التجميل العلاجية بديل عنها وهي حلال.

والأصل في مهنة المهندس الحل؛ ولكن الإضافة على الفواتير في التعهدات التي يأخذ فيها المهندس أتعابه على أساس 15% من الفواتير حرام، والصدق بديل عنه.

وهكذا ففي الحلال ما يغني عن الحرام، وذلك على سبيل المهن إجمالاً، أو على سبيل المعاملة في المهنة ذاتها.

المبدأ الخامس: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.

أو قل: العبرة بالمقاصد والمسميات، لا بالظواهر والتسميات.

وهي فرع من قاعدة فقهية رئيسة تقول: (الأمور بمقاصدها) ، وقد جاء في

شرحها في كتاب درر الحكام شرح مجلة الأحكام: (يفهم من هذه القاعدة: أنه

عند حصول العقد، لا ينظر للألفاظ التي استعملها العاقدان حين العقد، بل إنما ينظر إلى مقاصدهم الحقيقية من الكلام، الذي يُلفظ به حين العقد، لأن المقصود الحقيقي هو المعنيّ وليس اللفظ، وما الألفاظ إلا قوالب للمعاني).

فمن وضع مالاً في مصرف تقليدي (وديعة) على أن يستثمرها المصرف

لصالحه ويضمنها لمودعها، فما هي بوديعة بل هي (قرض)، والعبرة للمعاني

لا للألفاظ والمباني.

ولو قال أب لابنه (وهبتك) هذه الدار (لقاء عملك عندي عشر سنوات)،

فيكون هذا العقد (عقد بيع) لا (عقد هبة). والعبرة في العقود للمقاصد و

المعاني لا للألفاظ والمباني. وتجري فيه أحكام البيع، لا الهبة؛ لأن الهبة تكون بلا عوض.

ولو طلب موظف في دائرة عامة (أتعاباً) على عمله المطلوب منه من المراجع، فإنما هي (رشوة)، وإن سماها أتعاباً أو هدية.. والعبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.

والدليل على هذا المبدأ الحديث الصحيح المشهور، الذي رواه عمر بن الخطاب

، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى» [البخاري ومسلم].

وهذا المبدأ يبطل ما يسمى الحيل الشرعية، قال الإمام أحمد: لا يجوز شيء

من الحيل في إبطال حقِّ مسلم.

وسئل ابن عباس وأنس بن مالك عن البيع المعروف باسم بيع (العينة) فقال كلاهما: إن الله تعالى لا يُخدَع! هذا مما حرَّم الله تعالى ورسوله.

والعينة: أن يبيع السلعة بمليون ليرة مثلاً مؤجلاً، ثم يشتريها في الحال بثمن أقل:900 ألف مثلاً، وليس المقصود البيع ولا الشراء، إنما المقصود أن يدفع (900) ويأخذ (1000) بسبب الأجل.

وقال أيوب السختياني في المحتالين: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان!

فلو أتَوا الأمر عَياناً، كان أهون عليَّ.

وقال شريك بن عبد الله في المحتالين: مَن يخادع الله يخدعه!

وقد وردت السنة بلعن (المحلِّل) و(المحلَّل له) في النكاح، والمراد بالمحلِّل:

الذي يُستخدم لتحليل المرأة المطلقة ثلاثاً، والتي بانت من زوجها بينونة كبرى

، فلا تحلُّ له حتى تنكح زوجاً غيره، والمقصود هنا نكاح حقيقي طبيعي، أما

هذا الذي كلُّ همِّه أن يجامعها ليحلَّها لزوجها، فليس زوجاً، ولم ينعقد بينه

وبين زوجته سكينة ولا مودَّة ولا رحمة، ولذا كان من الحِيَل المحرَّمة بالنصِّ النبوي.

فالعبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.

أيها الإخوة:

هذان مبدآن آخران في فقه المهن.

واذكروا أن المطلب الرئيس من كل من يستمع لهذه الخطب أن يُحَكِّم شرعَ الله

في مهنته، لئن فعلتَ فأنت تتعبد الله تعالى في مكان عملك تماماً كما تتعبد الله تعالى في مسجدك، وإن لم تفعل فحاول أن تفعل، وابدأ الآن.

والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1652
تحميل ملفات
فيديو مصور