الجمعة 10 شوال 1445 - 19 أبريل 2024 , آخر تحديث : 2024-04-14 09:52:35 الرئيسية   |   خريطة الموقع   |   المساعدة   |   اتصل بنا  
http://www.awqaf-damas.com/?page=category&category_id=368&lang=ar

منابر دمشق

تاريخ النشر 2016-02-03 الساعة 11:59:11
قـــضــاء الحـــوائـــج
الشيخ الدكتور محمد الديري

خطبة جمعة = العنوان: قضاء الحوائج - الخطيب: فضيلة الشيخ الدكتور محمد الديري

المسجد: عمار بن ياسر – دمشق – كفرسوسة - التاريخ: 29/1/2016

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, مَن يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له.

يقول الله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون( [الحج: 77]، قوله تعالى: )وافعلوا الخير( هي عامة في أنواع الخيرات, ومن أعظمها: الرأفة والشفقة بعموم الخلق، ومواساة الفقراء وأهل الحاجة.

أيها الإخوة الكرام: قضاء حوائج الخلق عامة، وقضاء حوائج المسلمين خاصة، من أعظم مقاصد الشريعة المضمنة في مقصد الدين، فإن المقصد المتفرع عن مقصد الدين هو الرحمة العامة بالخلق، والهداية الشاملة للبشرية، وأمة مسلمة في ظل دولة راشدة.

أجل أيها الأخوة الكرام: إن قضاء الحوائج ذكره العلماء، وكتب فيه المحدثون الكتب، لذلك فإنني أحببت أن أفتتح خطبتي بقضاء الحوائج.

يَروي الإمام الطبراني في المعجم الكبير، عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ انظروا أيها الأخوة الكرام إلى عظيم أقدار هؤلاء الرجال، وإلى عظيم مقاصدهم، يسأل أحدهم عن أحب الناس إلى الله، وعن أحب الأعمال إلى الله تعالى، فقيمة المرء من قيمة الهدف الذي يُريده، ومن قيمة الطموح الذي يريد أن يصل إليه، ومن قيمة الميل والدافع الذي يعتلج في صدره، قال: أي الناس أحب إلى الله، وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -لا جرم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في تلك الساعة سعيداً مسروراً بهذا السؤال- فقال -ماذا تتوقعون؟- قال: ((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس))، ما قال أكثرهم صلاة أو صياماً، فصلاتك وصيامك عائد بالنفع عليك, أما نفعك للناس فإنه يتعدى إليهم، قال: ((وأحب الأعمال إلى الله تعالى -تصوروا- سرورٌ تُدخله على مسلم))، سرور، سرورٌ يا أخواني، أفنعجز عن إدخال السرور في أيام البأس هذه؟ قال: ((أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَيناً، أو تطرد عنه جوعاً))، هنيئاً لمن أطعم الطعام، هنيئاً لمن طهى الطعام، هنيئاً لمن قام على توزيع الطعام للفقراء والأيتام، هنيئاً لبيوت احتضنت أبناءها في بيتها ومنزلها العامر في هذا الشتات الذي ترونه، قال: ((أو تطرد عنه جوعاً)) قال: ((ولَأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد))، يعني مسجد المدينة شهراً، قال: ((ومن كف غضبه ستر الله عورته)).

يا إخواننا: هذه قوانين قطعية وثابتة، لأنها صادرة من الصادق المصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقيننا بها يفوق يقيننا بقانون الجاذبية، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن كف غضبه ستر الله عورته)) ما الغضب يا إخواننا؟ علماء النفس ذكروا أن الغضب مُكون من أمرين: انفعال وعنف. لو قال قائل: (أنا لا أستطيع إلا أن أنفعل، فإنني إنسان) لصدِّق، ولكنه لا عذر له في العرف، وإليه يتسلط النهي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: ((لا تغضب))، فالعنف منهي عنه في شرع الإسلام.

قال: ((ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة))،كظم الغيظ -يا إخواننا- عملية نفسية معقدة، وتحتاج إلى تربية سلوكية، وأن ينشأ المؤمن على التحكم بمشاعره، فإذا استُغضب لم يغضب، وإذا استفز لم يُستفز، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن، تفد إليه واردات السوء، فماذا عساه يفعل؟ يكظم غيظه، ولا يبادر إلى القول، لا جرم أن القول الذي يبادر إليه في ساعة انفعاله يحمل قسوة وخشونة، ويتخير من الألفاظ أخشنها وأغلظها, يَنبغي أن يهدأ أيها الأخوة.

وإنه قال: ((ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه)) كان قادراً على ذلك، كقدرتنا جميعاً على إنفاث غضبنا يوم نغضب، قال: ((ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة)).

موضع الشاهد في الحديث: ((ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام))، وقد عقدت من على هذا المنبر مُنذ مدة خطبة عن الصراط بأهوالها.

هكذا أيها الأخوة الكرام: في فضل قضاء الحوائج أخرج البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه))، ما معنى لا يسلمه؟ لا يسلمه إلى من يظلمه أو يهينه، ثم قال: ((ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته))، يعني كان الله في حاجته في الدار الآخرة؟ لا، كان الله في حاجته في الدنيا، كما كان له كذلك في الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومَن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة))، فالجزاء من جنس العمل.

سارع الصحابة الكرام إلى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في قضاء حوائج الخلق، فها هو سيدنا علي رضي الله عنه يصلي الظهر، ثم يَقعد لحوائج الناس في رَحَبَةِ الكوفة حتى حضرت صلاة العصر, وأبو طلحة رضي الله عنه يَسوق نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (إني جلدٌ يا رسول الله) إني امرؤ قوي أتحمل الشدائد، (إني جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك، وامرني بما شئت)، هنياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الصحابة، يتسابق الصحابة ويتنافسون في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلغ ذلك أن أحدهم وهو ربيعة بن كعب الأسلمي، قام على خدمته في نهاره أجمع، حتى إذا جَنَّ الليل لازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقف على بابه وقال في نفسه: (لعلها أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فأقضيها له)، في صحيح مسلم، قال ربيعة: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سل))، فقلت: (أسألك مرافقتك في الجنة)، أعرفتم مقاصد الرجال؟ أحدهم يَسأل عن أحب الناس إلى الله، وأحب الأعمال إلى الله؟ وها هو ربيعة يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (أسألك مرافقتك في الجنة) قال: ((أو غير ذلك))، قالها رسول الله ممتحناً لحقيقة اختياره، قال: قلت: (هو ذاك) هو قَد حدَّد الهدف، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)).

ها هو عمرو بن مُرَّة الجهني، يقول لمعاوية رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما مِن إمام يُغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته))، منذ ذلك الحين جعل سيدنا معاوية رضي الله عنه رجلاً على قضاء حوائج الناس.

أيها الأخوة الكرام: ليس قضاء الحوائج مخصوصاً بالحُكام والأمراء، بل هو على كل مسلم ومسلمة، في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((على كل مسلم صدقة))، قيل: (أرأيت إن لم يجد؟) قد لا يجد المرء ما يتصدق به، يكون فقيراً، قال: ((يعتمل بيديه، فينفع نفسه ويتصدق))، فلا عطالة ولا بطالة في الإسلام، الإسلام عمل وإنفاق، قيل: (أرأيت إن لم يستطع؟) يسأل سائل، فالاحتمال وارد، قال: ((يعين ذا الحاجة والملهوف)) قيل له: (أرأيت إن لم يَستطع؟) دائماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الإجابة ما يَكون مُتلائماً مع صيغة السائل، قال: ((يأمر بالمعروف أو الخير))، قيل: (أرأيت إن لم يفعل؟) الله، ما تقرؤون في هذه السلسلة من الأسئلة المتتالية، نقرأ فيها الحاح السائل، ونقرأ فيها صبر وحلم النبي صلى الله عليه وسلم، وسعة عقله ورجاحة فكره، قال: ((يُمسك عن الشر فإنها صدقة))، وهذا مأمور به كل إنسان في الحد الأدنى.

حذر الشرع -أيها الأخوة- أقواماً أنعم الله عليهم بنعم سابغة عظيمة، فمنعوها ذوي الحاجة والمسكنة، حذرهم من تحول النعمة، فقد روى ابن أبي الدنيا بسند حسن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يُقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم)).

روى الطبراني بإسناد جيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه، ثم جعل حوائج الناس إليه، فتبرم -تسخط، تضجر، تململ، كما هو حال البعض- ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فأسبغها عليه ثم جعل حوائج الناس إليه فتبرم فقد عَرَّض تلك النعمة للزوال))، قضاء حوائج الخلق سبب من أسباب الحفاظ على نعم الله عز وجل، هي التعبير العملي الصادق الصادر عن العبد شكراً لله تعالى على ما أنعم، ونعلم أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، ثم هي سَبب في دخول الجنة، وتَعصم صاحبها من أهوال يوم الحشر والنشور.

ويكاد ثواب قضاء حوائج الخلق يَفوق ثواب الاعتكاف في مسجد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قد أدرك سيدنا عبد الله بن عباس هذه الأفضلية، فكان معتكفاً في مسجد المدينة، دخل عليه رجل وقد بدا عليه علائم الحزن والكآبة، وجلس بجواره بعد أن سلم عليه، فقال سيدي عبد الله بن عباس: (يا فلان، أراك مكتئباً حزيناً) فقال الرجل: نعم يا ابن عم رسول الله، لفلان علي حق ولاء -أي: دين- وحرمة صاحب هذا القبر لا ما أقدر عليه، فقال عبد الله بن عباس: (أفلا أكلم صاحب الدين فيسامحك ويَعفو عنك؟ فقال الرجل: إن أحببت! فلبس عبد الله بن عباس حذاءه، وقام فخرج من المسجد، قال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه -أي من شأن الاعتكاف-؟ فقال له سيدي عبد الله بن عباس: لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر يقول: ((مَن مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين)).

فطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن جعل الله مفاتح الخير على يديه، واستجلب حلاوة الزهد، فزهد بما في أيدي الناس، فأحبه الخلق والخالق، وتعرض لرقة القلب بمجالسة أهل الذكر، واستجلب نور القلب بدوام الحذر، واستفتح باب الحزن بطول الفكر والتدبر والاعتبار، وتَزَّين لله بالصدق في كل أحواله، وتحبب إلى الله بخدمة عياله، فالخلق كلهم عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين اذكروا الله.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان.

)إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( [الأحزاب: 56].

اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واقض حوائجنا، اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا، منا ما يليق بضعفنا، ومنك ما يليق بجودك وقوتك يا كريم، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار، لا تدع اللهم لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مريضاً إلا شفيته وعافيته، اللهم يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين، نسألك يا الله مسألة المضطرين إليك، اللهم ارزقنا قلباً خاشعاً، وطرفاً دامعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً صالحاً متقبلاً، وشفاءً من كل داء.

أضف تعليقك عدد التعليقات : 0 عدد القراءات : 1884
تحميل ملفات

هل ترغب في التعليق على الموضوع ؟
الاسم الكامل : *
المدينة :
عنوان التعليق : *
التعليق : *

أدخل الرمز : *